قضايا
أسعد عبد الرزاق: في الفقه الاسلامي.. هل توجد خطوط حمراء؟
تتفرع المعرفة الدينية في إطار الاسلام على الفكر والعقائد من جهة، وعلى التشريع والفقه والاحكام من جهة أخرى، وهذا التفريع يمثل –إلى حدما- ثنائية تحكم الفكر الديني المعاصر، بالأخص في البيئات العلمية الخاصة والمؤسسة لعناصر الفكر الديني، وأقصد بها –في عموم العالم الاسلامي- الحوزات العلمية والجوامع والمدارس والأكادميات المتخصصة، والمثقف الاسلامي لا تحكمه تلك الثنائية كما تحكم العالم المتخصص الذي يمكن أن نطلق عليه (عالم الدين أو طالب العلوم الدينية)، لأن الثقافة تتسم بالشمول والتداخل بنحو عابر للمناهج والتخصصات، لكنها تمتلك رؤية نقدية من شأنها أن تكشف عن بعض مواضع الخلل التي تحصل في بعض مجالات البحث العلمي.
اذن يمكن عد العلوم الدينية على أنها ذات صنفين إما علم بما هو كائن (علوم نظرية: عقائد، تاريخ، فكر، فلسفة اسلامية..)، أو علم بما يجب أو ينبغي أن يكون (علوم عملية علم الفقه والأخلاق..).
ومن بديهيات المعرفة الدينية أن أن الفقه الاسلامي علم تكون عبر مراحل ومستويات وذو خصوصيات تجعل منه علما دقيقا يستند إلى منهج معرفي دقيق في الاستدلال نجد معالمه واضحة في علم الاستنباط أو الاجتهاد الذي يستند بنحو أساس على علم أصول الفقه..
وجدير أن نلحظ أن أول مصادر بناء المعرفة الفقهية واستنباط الأحكام هو القرآن الكريم، كما يجدر أن نلحظ أن عدد آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتجاوز الخمسمائة آية مع المتكرر منها، وهذا العدد الى اليوم يثير تساؤلات عدة، وثمة إجابات عدة أيضا، لامجال للخوض في تفاصيل هذا الجانب.
يكاد يتفق فقهاء الاسلام على أن الأحكام الناتجة عن الاجتهاد والاستنباط هي أحكام ظنية مع كونها حجة بالظن المعتبر، وعلم الأصول تكفل بضمان صحة ذلك الظن –بالأخص عند أصوليي فقهاء الإمامية- في حين يكاد يتفق علماء الإسلام –أو أغلبهم- على أن العقائد لا تؤخذ بالظنون، ولا يمكن الاجتهاد في العقائد، بل لا يمكن اعتبار الظن في اثبات العقائد، رغم امكانية اعتباره في إثبات أدلة الأحكام الفقهية، ومن هنا يمكن تصور أن مساحة العقائد لا يمكن الاجتهاد فيها على اساس الظنون، ومساحة الفقه والأحكام يمكن لتوقف نظام الناس وأعمالهم ومجمل تصرفاتهم..
واليوم نحن أمام ظاهرة مفادها: يمكن لأي شخص أن يسأل في مجال العقائد، اذا ما وردت في ذهنه شبهة، أو تساؤل، ولو بنحو غالب، بحسب البيئات العلمية ومدى توفر الحرية الكافية لذلك، في حين لا يمكن لأحد أن يتساءل أو يشكك في أي من الأحكام المستنبطة، وبالأخص في حدود الفقه الامامي، لوجود عنصر (التقليد) الذي يوجب على الفرد المكلف اتباع أحد الفقهاء في تنظيم شؤونه واعماله الدينية والدنيوية مما للفقه علاقة ودخل فيها، وتبرير ذلك أن المكلف سوف يلقي مسؤولية عمله على عاتق الفقيه الذي استنبط له الحكم الشرعي، ولكون المكلف غير متخصص في الفقه فليس من شأنه ولا يجب عليه البحث والنظر في أدلة الاحكام التي ترتب شأن أعماله وعباداته..، في حين يذهب بعض العلماء إلى وجوب تحصيل العلم على كل فرد في مجال العقائد دون الفقه والأحكام، وفي هذا المنحي نحو من التخفيف على الفرد المكلف بحيث لا يتم زجه في أمور الفقه لأنها مسائل دقيقة ومعقدة تعتمد على معرفة وإحاطة بقواعد علم أصول الفقه وهو مما يعجز عليه غير المتخصص والمحيط بتلك العلوم، في حين تعد مسائل العقائد متاحة ولو بمستويات متدرجة يُسمح فيها لأي فرد أن يسأل أو يبحث، رغم ارتباطها بالعلوم العقلية..
أعود إلى سؤال المقال في العنوان.. هل في الفقه خطوط حمراء؟؟
بصراحة لا يحبذ رجال الفقه أن يتم الالحاح من الفرد غير المتخصص في السؤال أو التشكيك في حكم شرعي، لأنه غير مكلف بالاجتهاد، وأن الحكم الذي يشكك فيه جاء عن طريق نظر واجتهاد جل من العلماء الفقهاء الذين أفنوا عمرهم في تحصيل أحكام الدين، ولهم الحق في ذلك طبعا، وواقعا، لأن البحث في الأدلة الظنية أعسر وأصعب من البحث في أدلة قطعية التي يستند عليها علم العقيدة..
لكن ذلك ليس مطردا في كل زمان ومكان، ونحن نعيش في عالم تثور فيه المعلومات، وتتحرك فيه مختلف مجالات البحث، والناس تسأل في كل أمر، وفي كل تخصص، وفي كل اتجاه، فلا علماء الفلك بمنأى عن التساؤلات، ولا علماء الاقتصاد ولا علماء الجيلوجيا، ولا الأطباء.. الكل يسأل، والكل مطال بالإجابة..
الانسان المعاصر غير انسان الأمس، فهو في وسط من الأفكار المختلفة والمتعددة والمتجددة، بفضل تطور وتضخم وسائل التواصل وشبكات النت، ورغم سيادة الجهل والتفاهة في فضاءات الميديا والاعلام، تبقى هناك تساؤلات ملحة قطعت شوطا كبيرا من المعرفة بسبب تقنية المعرفة الجاهزة (الحاسوب وشبكات الانترنت)، وهذا يشكل تحديا جديدا لعلم الفقه، لأن وظيفة علم الفقه هي استخراج الحكم من الدليل بعد البحث في الأدلة، وهذه الوظيفة تقدم جوابا لسؤال (ما الحكم الشرعي للمسألة الفلانية)، لكنها لا تجيب عن سؤال (لماذا شرّع هذا الحكم؟)، إذ ليس من وظيفة الفقه أن يحدد علل الأحكام.. في حين السؤال ينقدح ويتجدد في مجال (لماذا هذا الحكم؟) لذا فعلم الفقه مطالب بتهيأة مجال معرفي ساند وظيفته تقديم الإجابات لسؤال (لماذا) بدلا من (ما)..
وأقولها بصراحة وبدافع الحرص على تلك الجهود التي بذلها ويبذلها الفقهاء في مسارات البحث والتنقيب في أدلة الأحكام الشرعية، ومع ما يشهده الواقع المعاصر من مسائل مستحدثة، جعلت مهمة الفقهيه أصعب من ذي قبل، أقول: لابد من الاهتمام بمجال (فلسفة الفقه)، والاشتغال على الحكم والغايات التي تنتج عن تشريع الأحكام الشرعية، وبرغم الجهود التي بذلت طيلة تاريخ علم الفقه، فإن الحاجة ملحة اليوم إلى تأطير الفقه بإطار قيمي عقدي أخلاقي غير منفصل عن منظومة المعارف الدينية، فإذا كان الفقه في مساره الاستدلالي منفصلا عن علم الكلام والعقيدة فإنه متداخل من ناحية المآل والغاية والنتيجة، والأحكام الفقهية تخلق أنموذجا من المجتمع ذا خصوصيات متعددة تتبع عامل العقيدة من جهة وعامل الفقه من جهة أخرى.
ومع اجتياح العقل المعاصر لكل موانع الفكر، ومع تمرده على مختلف الايديولوجيات، وفي كل الديانات والمذاهب المشكلة ذاتها، مع كل ذلك لابد من إعادة تنظيم إنتاج المعرفة الفقهية بما يناسب حجم الوعي أو التمرد –لنحسبه ما نشاء- وذلك يتاتى عن طريق وسيط معرفي يأخذ على عاتقه ايصال الحكم الشرعي من (المجتهد) إلى (الفرد المكلف)، والإيصال لا يتم بنحو مجرد، بل بنحو يغذي الفرد بما يحيط بالحكم الشرعي من فلسفة ورؤية ونتيجة ينبغي أن تكون في صالح الفرد المكلف في دينيه ودنياه.
إن الذي طرحته ليس جديدا، بل امتداد لما تم طرحه في عقود ماضية من ضرورة مراعاة ما ينتج من معرفة فقهية ومدى مواكبتها للعصر ومتطلباته، وفي حدود تتبعي القاصر شخصت مشكلات عدة في هذا المجال وبعض المحاولات للحل والتصحيح، في كتاب مستقل أسأل الله تعالى أن أوفق في إنجازه.
***
د. أسعد عبد الرزاق الأسدي