قضايا
محمد الورداشي: الرقابة بين التاريخ والمعرفة والثقافة
تعد الرقابة ظاهرة إنسانية متجذرة في البنية التكوينية للكائن البشري؛ إذ إن لها حضورا في المجتمعات البدائية الأولى، واستمرارا حتى حياتنا المعاصرة. بيد أن أسبابها، الظاهرة والمضمرة، والأهداف المرجوة منها، وتمظهراتها وتجلياتها، ودرجة حضورها تختلف باختلاف المجتمعات البشرية، والشروط التاريخية والثقافية والاجتماعية لهذه المجتمعات. ومن ثم، أخذت الرقابة وأشكالها وطرق ممارستها تتطور بتطور الوعي والفكر والأهداف على مر التاريخ.
في هذا المساق، تأتي دراسة الباحث المغربي سالم الفائدة، المعنونة ب"الثقافة والرقابة، دراسة تاريخية معرفية"، لمقاربة هذه الظاهرة من خلال تتبع حضورها في التاريخ البشري منذ المرحلة البدائية إلى القرن العشرين، مقاربة يتقاطع فيها التاريخي والمعرفي والثقافي.
على أن الباحث انطلق من خلاصة مفادها أن الدراسات العربية السابقة التي تناولت الرقابة، لم تدرسها دراسة شاملة تقف على مختلف أبعادها وتجلياتها التاريخية والسياسية والثقافية والأدبية في الثقافة الإنسانية. ومن ثم، رام الباحث مقاربة الرقابة على مجال الفكر والإبداع الأدبي، والثقافة عموما في السياقين الغربي والعربي.
هكذا، تحددت إشكالية الدراسة في التساؤل عن الكيفية التي تمارس بها الرقابة؟ وما تجلياتها عبر التاريخ الغربي والعربي؟ فضلا عن رصد الأسباب التي حفزت الرقيب على ممارسة سلطته الرقابية؟ وما تجليات الصراع الديالكتيكي بين الإبداع والحرية؟ وما طبيعة العلاقة التي تجمع بين المثقف والسلطة، بين المعرفة والسلطة؟ والعوامل التي دفعت إلى استمرار الحظر والمنع على الخطاب الأدبي والفكري؟ وما أوجه الاختلاف والائتلاف بين التجربتين الغربية والعربية؟
أما المنهج المتوسل في دراسة الظاهرة ومقاربة إشكاليتها، فإنه يجمع بين التحليل التاريخي من خلال تتبع تاريخ الرقابة في الفكر الإنساني، والحفر المعرفي الذي يتخذ التحليل النفسي (سيغموند فرويد، كارل يونغ)، وأركيولوجيا المعرفة كما بلورها ميشيل فوكو، واجتهادات الباحثين في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الغربية، فضلا عن الاستفادة من مفاهيم النقد الثقافي لفهم المنظور الثقافي العربي لمفهوم الرقابة.
أ- الرقابة تاريخيا:
على مستوى الثقافة الغربية، يذهب الباحث إلى أن تجليات الرقابة بدأت منذ عهد الإغريق، لتستمر ممارستها بأشكال وضروب مختلفة باختلاف السياق السياسي والثقافي والديني، في القرون الوسطى، وعصر النهضة، وصولا إلى الفترة التاريخية التي انفتحت فيها أوربا على أنوار العقل، إلى حدود القرن العشرين.
في حين، أنه يفند الرأي القائل بأن العصر الجاهلي لم يعرف ظاهرة الرقابة، ومن ثم عدم الاهتمام ببحث الظاهرة في هذا العصر. وهذا ما سعى الباحث إلى القيام به؛ إذ إنه حفر في مصنفات التاريخ العربي القديم التي تضمنت مجموعة من القصص والحكايات تقدم نظرة شاملة عن الحياة في ذلك العصر. كما أن الباحث تتبع تجليات الرقابة على الفكر والأدب في صدر الإسلام، ثم في العصر: الأموي، والعباسي، والأندلسي، والحديث؛ إذ أكد على أن العصر العباسي، عصر الانفتاح والتقدم الفكري والحضاري، قد عرف ظاهرة الرقابة. ومن ثم، يخلص إلى أن الغزل كان سببا للرقابة على الخطاب الشعري في العصر الأموي؛ والهجاء في العصر العباسي.
والآتي أن الظروف الاجتماعية والمادية للشعراء الذين تجرعوا علقم الرقابة أكثر من غيرهم في تلك المرحلة التاريخية، تظل سببا في عدم ثباتهم على مبدأ أو موقف؛ لكونهم كثيرا ما يتأرجحون بين الهجاء والمدح. يقول هادي العلوي في سياق عرضه أسباب محنة الشيرازي: "فالمثقفون ليسوا أقل من سائر الناس حبا للثروة، وتمرغا على أعتاب السلطة، وتكالبا على المنصب والجاه"(1).
أما عن العصر الحديث، فإن الباحث بين أن ثمة تحولا في أدوات الرقابة وتجلياتها؛ إذ تختلف عن رقابة الماضي بكونها" أدركت أن القمع الزائد لكتب الفكر والأدب والعلم، أكبر وسيلة دعائية لها، لذلك صارت توظف أدوات خفية لممارسة الحظر، في ظل عصر الحاسوب والإنترنيت والسماء المفتوحة"(2).
على هذا أساس، يلاحظ أن الأعمال السردية الأدبية التي لاحقتها يد الرقيب في التاريخ الحديث، تحظر وتمنع بتهم ومزاعم لا تخرج على الثالوث المحرم: الدين، السياسة، الجنس (الأخلاق). ذلك أن المؤسسة السياسية العربية تتحرك كلما أحست أن في العمل السردي نقدا لاذعا لها؛ في حين أن المؤسسة الدينية تتحرك بدعوى أن العمل السردي يهتك حرمات الدين والأخلاق، ويخدم الحياء ويفسد السلوك المجتمعي.
تتجلى الرقابة، في الثقافتين الغربية والعربية، في مصادرة الكتب، وسجن مؤلفيها وناشريها ومروجيها، وأحيانا كل من يقرؤها، وقد يصل فعل الرقابة إلى القتل والتصفية. وهكذا، خلص الباحث بعد تتبعه لتاريخ الرقابة في الثقافة العربية، قديما وحديثا، إلى أنها اتخذت بعدا جديدا يتمثل في "قوانين وتشريعات وممارسات زجرية وقمعية مختلفة. تشتد وتخف تبعا للعوامل السياسية والدينية"(3).
بيد أن الباحث لم يتطرق إلى تبيان الكيفية التي تمارس بها الرقابة عبر/على وسائل الاتصال الجماهيري الحديثة، ولا الآليات والأدوات التي تتوسلها لمراقبة وتضييق الخناق على حرية الرأي والتعبير والفكر في مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت متنفسا متاحا لجميع الأفراد. كما أن السياق، يستدعي كشف آليات الرقابة على الصحفيين، والمدونين في مواقع التواصل.
ب- الرقابة معرفيا:
تناول الباحث، في الفصل الثاني، مفهوم الرقابة ودلالته والتصورات المعرفية التي أنتجت حوله، ومن ثم، الحاجة إلى دراسة مفاهيم تتداخل مع مفهوم الرقابة من قبيل: الكبت، والقمع، والتابو، والمحرم، والمقدس، والمدنس..إلخ؛ وذلك في سياق اجتهادات التحليل النفسي. في حين، أن الرقابة في تصور أركيولوجيا المعرفة كما بلوره فوكو هي "عبارة عن آليات وتقنيات ينبغي استعمالها بشكل ملائم، لا يبدي معه أفراد المجتمع أي مقاومة أو رفض للسلطة وآلياتها المتعددة"(4).
وهكذا، يبدو أن مفهوم السلطة، بناء على ما خلص إليه الباحث من قراءته لفوكو، صار يعرف ب"السلطة الانضباطية"، والنتيجة أن السلطة لم تعد "في المجتمعات الحديثة غاية، بل وسيلة لبلوغ غايات محددة؛ فهي استراتيجية التطويع التي لا يمكن تملكها"(5). ومن ثم، فإن ظاهرة الرقابة، تبعا لفوكو، "ليست سوى وهم تم الانخداع به عبر التاريخ"(6)؛ لكون الظاهرة تتحدد في "أن ثمة أجسادا وقوى تتصارع وتحاول أن تضمن استمراريتها بلعب دورها المرسوم ضمن الاقتصاد السياسي للمجتمع"(7).
أما الرقابة في المنظور الثقافي العربي، فإنها تجلت في:
- القرآن الكريم؛ إذ إن فهم كلمة "الرقيب" ومشتقاتها "يمكن السلطة الدينية من إيجاد مبررات لرقاباتها المتعددة، ذلك أنها تخول لنفسها السهر على تطبيق أوامر الله ونواهيه"(8).
- المجاميع اللغوية العربية القديمة: تُقدم معانيَ ودلالاتٍ متعددةً للجذر اللغوي "ر ق ب"؛ ذلك أنها تدل "على الإشراف من مكان عال لغاية الحراسة أو الرصد أو المراقبة، وذلك لأهداف قد تكون حسنة أو سيئة"(9). فضلا عن كون الباحث يقيم تشاكلا دلاليا وثقافيا بين دلالة "الرقيب" على الإنسان الذي يقوم بفعل المراقبة من مكان عال، والحية السامة التي ترصد وترقب مَنْ تَعَضُّ.
- معجم المحدثين: خلص الباحث، بعد تتبع المعاني والدلالات اللغوية والاصطلاحية للمفردة، أن التصورين العربيين، القديم والحديث، يتفقان في كون الرقابة "تهدف إلى الحماية ودرء الخطر، تمارس من قبل القوي على الضعيف، العارف على الجاهل، والسلطة تجاه المجتمع، و"الفوق" تجاه "التحت"(10).
إن المثقف العربي قد أنتج تصوره المعرفي حول ظاهرة الرقابة/التحريم؛ إذ ربطها، من جهة أولى، بقضية الحرية في كل مجالات الفعل الإنساني؛ ومنطلقه في ذلك هو نظرته الشمولية لخطاب التحريم، والنتيجة ضرورة تحرير الفن بحسبانه مدخلا للحرية الإنسانية وممارستها. ومن جهة ثانية، يقيم تعالقا جدليا ماركسيا بين البنية التحتية للمجتمع، ونوع الرقابة، وطنية ديمقراطية، أو قهرية، التي تتمخض عن هذه البنية.
على أن ثمة تصورات أخرى للرقابة، أو الوصاية، على الفكر في العالم العربي، من بينها تصور المفكر الجزائري محمد أركون، في سياق تفكيكه وكشفه للآليات المعرفية للفكر العربي الإسلامي، متوسلا في ذلك الثالوث المفاهيمي: المُفَكَّرُ فيه، اللا مُفَكَّرُ فيه، المستحيل التفكير فيه. على أساس أنه حاول تفكيك وتعرية الجوانب التي لم يفكر فيها الفكر العربي والإسلامي، أو تلك الجوانب التي استحال عليه التفكير فيها بحسبانها ممنوعا ومحظورا(11).
لقد سعى الباحث، سالم الفائدة، إلى الكشف عن الكيفية التي تحول بها الدين والسياسة والجنس إلى طابوهات ومحرمات، فضلا عن علاقة هذه الأخيرة بالسلطة من جهة، وبالمعرفة من جهة أخرى. كما رام البحثَ في الخيط الناظم بين مكونات الطابو، وكيف يتواشج و"يتزاوج" السياسي بالديني.
ففي الثقافة الغربية، تم التعامل مع الثالوث تعاملا فكريا نقديا وتفكيكيا مكّن من إنتاج معرفة وخطاب حول الجنسانية. أما الثقافة العربية، فقد تناولت الموضوع من زوايا دينية وأدبية بوصف الجنسانية محظورا من قبل السلطتين الدينية والسياسية، علاوة على ثقافة المجتمع العربي وشرطه التاريخي والحضاري؛ حيث نبع تناول الجنسانية "فيما يبدو من حاجة اجتماعية وإنسانية إلى علم للجنس"(12).
إن ما اهتم به الباحث في هذا السياق، يمكن صياغته في السؤالين الآتيين: ما علاقة الرقابة بالثالوث المحرم؟ ولمَ تُمارس الرقابةُ على الأدب إن اقتحم هذه المنطقة المحرمة؟
- على سبيل الختم:
من خلال تتبعنا دراسة الباحث لظاهرة الرقابة، تبين لنا حجم هذه الظاهرة ومدى شموليتها؛ ذلك أن الرقابة موجودة في كل مكان وزمان، إذ يمكن تشبيهها، مجازا، بأفعى تغير جلدها بتغير السياقات حتى لا تهلك، والنتيجة أن الرقيب يتفنن في ممارستها، ويبدع في طرق وأشكال ممارستها بناء على تطور الحياة الفكرية والاجتماعية والعلمية في المجتمع.
لعل هذا الاهتمام بظاهرة الرقابة من في الدراسة، يفتح آفاقا رحبة للتساؤل أمام القارئ؛ ومن ثم، فإننا نبسط التساؤلات التالية بناء على تفاعلنا مع دراسة الباحث، من قبيل: كيف يتصور الإنسان العربي العادي الرقابة؟ وكيف يمارسها على من هم أضعف منه أو أنداد له؟ وما نوع الرقابة التي يمارسها على نفسه وغيره؟ وما أدواتها وآلياتها وتجلياتها؟ وما الأهداف والدوافع الثاوية خلف هذه الرقابة؟.
***
إعداد: محمد الورداشي.
............................
- المصادر والمراجع:
(1) هادي العلوي: نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي، ط2: 2007، دار المدى للثقافة والنشر، ص: 34.
(2) سالم الفائدة: الثقافة والرقابة دراسة تاريخية معرفية، ط1: 2019، منشورات القلم المغربي- المغرب، ص 108.
(3) المرجع نفسه، ص 125.
(4) المرجع نفسه، ص 145.
(5) المرجع نفسه، ص 150.
(6) المرجع نفسه، ص 151.
(7) المرجع نفسه، ص 151.
(8) المرجع نفسه، ص 155.
(9) المرجع نفسه، صص: 156-157.
(10) المرجع نفسه، صص: 159-160.
(11) للمزيد من التوضيح، ينظر: محمد أركون: الفكر الإسلامي قراءة علمية، ط2: 1996، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، ت. هاشم صالح، ص: 18.
(12): سالم الفائدة، ص: 188.