قضايا
اياد الزهيري: هكذا فهمت الرسول محمد في القرآن (4)
أتضح لنا بشكل واضح وجلي من خلال الحلقات السابقة بأن الرسول كما وصفه القرآن الكريم، الذي هو كلام الله المنزل على نبيه محمد (ص) (قل انما أنا بشر مثلكم يوحى اليَّ، أنما الهكم واحد...)(الكهف:110) فالرسول (ص) له صفة الناطقية الموحى بها من الله على لسان محمد (ص) . هذه المهمة الوظيفية الناطقية لا تعطي أمتياز للنبي فوق طبيعة البشر، بل تخصه بخصوصية قدسية النبوة، ومقامها المقدس، وما يتمتع به هذا المقام من أقصى درجات الأمانة والصبر، والأرادة والشجاعة، والفداء والتضحية، وهي صفات تجسدت به أساساً، وأعده الله بها بما أدبه عليها، وكان خلقه القرآن، وتبقى هذه الصفات تندرج ضمن نطاق الأنسان، وأن كان هذا الأنسان النبي يتجلى بصفة الكمال الأنساني. ولكي نضع الأمور في نصابها، وكما يصوره القرآن في نصوصه التي بين دفتيه، والتي علينا كمسلمين الأيمان بها، والألتزام بما تلزمه علينا، هو أن نقر بما يقره القرآن، وأن نلتزم به حرفياً، وبما تسمح به كلماته من تأويل لا يبتعد عن المنطق . فالقرآن الكريم يزودنا بمعرفة واضحة عن أمكانيات الرسول، وصفاته، ومهامه الملقات على عاتقه، والقرآن كلام أنزله الله بلغة عربية فصيحة (انا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)(يوسف:2)، نرفع هذه المقدمة للقاريء الكريم لغرض مفاده أن الرسول (ص) لا تتعدى مهامه، المهام التي وظفه الله لها، وهو التبليغ (وما على الرسول الا البلاغ المبين) ولاشك ما للتبليغ من أدوات، والتي تختلف من زمن الى آخر، كما أن الرسول لم يكتسب صفات هي من صفات الله، والتي منها كمال القوة والقدرة، وعلم الغيب، فالرسول محدود بحدود وطاقة وعلم البشر (أنما أنا بشر مثلكم يوحى الي...)(الكهف:110)، فكلمة مثلكم، أي تعني التساوي بالقدرة والقابلية، سواء كانت جسدية أو عقلية ونفسية، ولكن الفارق هو أن الرسول يوحى له .
في هذه الحلقة أسعى الى التطرق الى مدى علمية الرسول العملية والمحضة، وهل هو يعلم الغيب؟ . أنا سوف ألزم نفسي، ما ألزمني به القرآن، وما يقوله الرسول محمد (ص)، وأن الأمر لا يخضع لا للهوى، ولا للمزاج، لأنه أمر غير أنطباعي ولا عاطفي، فهو أمر ينبغي أن يكون كما يريد له الله، لا كما نريده نحن، وما تهواه أنفسنا، ومن الضروري أن نذكر ما يقوله الرسول نفسه عن نفسه (واني والله ما أعلم الا ما علمني الله)، أذن كل ما يتمتع به من علم، ومنه علم الغيب هو بمقدار ما سمح به الله له، والقرآن الكريم واضح في ذلك (فلا يظهر على غيبه أحد إلا من أرتضى من رسول)(الجن: ٢٦) وهو نفسه من قال (انما أنا متبع ما أوحى الله تعالى، غير شارع شيئاً من جهتي ولا أعلم ماوراء هذا الجدار الا أن يعلمني ربي) فالرسول مقيد بقيد الوحي تماماً، وخير دليل في ذلك هو عندما نزلت الآية الكريمة التالية (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر، والمجاهدون في سبيل الله ...)(النساء:95) والذي يُذكر أن زيد بن ثابت هو من أمره الرسول بالكتابة لهذه الآية، حيث لم يكن فيها عبارة (غير أولي الضرر)، وحين سأل رجل ضرير الرسول (ص) حين سمع بفضل المجاهدون، فقال له يارسول الله، كيف وأنا رجل ضرير، فرد عليه النبي (ص) بكلمة لا أدري، فيقول زيد وبينما قلمي لم يجف مداده، غشيه الله غشيه، فقال أكتب يازيد (غير أولي الضرر)، وهنا يُعلق الرسول الجواب على الحكم الى أن يأتي له من المرسل (الله)، فالعملية في غاية الأحكام والتقيد، خالية من كل تفويض للرسول، الا ما يأتيه من الله، وهنا ومن باب الخروج قليلاً عن نطاق البحث هو أن هذه الآية تدل دلالة واضحة على عدم أزلية ما يدعيه البعض من فكرة أزلية القرأن، والتي أخذت جدل واسع فيما يُعرف بقضية قدم القرآن، وهي قضية حُكم على البعض بها بالأعدام على من قال بحدوث القرآن الكريم في زمن الدولة العباسية، وكانت تُسمى بمحنة خلق القرآن، والتي أستمرت حوالي ثلاثين سنة أبتدأت من عهد الخليفة العباسي المأمون، وكان أحمد بن حنبل ممن جُلد وحُبس لقوله بعدم خلق القرآن.
نتناول هنا عنصرين مهمين في شخصية الرسول، ومدى ما يمتلك من قدرة فيهما، وهو العلم بشكل عام، ومدى علمه بالغيب، وقد أُثير، وقِيل عنها الكثير، وهُول عنها الكثير، وهو كلام لم يأتي عن الرسول نفسه، ولا من القرآن، ولكن جاء عن طريق المغالين من المهوسين، وقسم من قِبل ناس جهله، لم يقصدوا المبالغة، ولكن من الحب والشغف بشخص الرسول، من قِبل ناس بسطاء لم يعوا حقيقة الرسول الأكرم كما هي، فطبيعة الأنسان، وخاصة أنسان ذلك الزمن، يميل الى الأسطرة، وهناك ما يبالغ بدافع المنافحة بين أصحاب العقائد المختلفة، فمثلاً في مجال العلم بشكل عام، فالرسول ليس عالم فيزياء ولا كيمياء ولا فلك، وهو لم يدعي هذا أطلاقاً، وليس له من العلم الا ما علمه الله، وقد قال له الله في كتابه الكريم (وَأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعَلمك مالم تكن تَعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً)(النساء:١١٣) و(ولاتقف ماليس لك به من العلم) (الأسراء:36) أي أن الرسول ليس لديه كل العلم، وأنما محصور بما يُطلع عليه وهناك أحداث تدل دلالة واضحة على أن الرسول في الأمور الحياتية والعملية له من العلم بحدود تجربته ومن خلال ماتعلمه من مجتمعة، وهو كانسان لم يتجاوز الحدود المعرفية السائده في مجتمعة، ولنا في مسألة تأبير النخيل خير مثال على ذلك، والتأبير هو التلقيح، حيث مر بمجموعة من الفلاحين يلقحون أعثاق النخيل، فقال ماتصنعون، فقالوا له أشياء كنا نصنعها في الجاهلية، فقال:لعلكم لو لم تصنعوها كان خيراً، فَتركوها مما جعلها لم تثمر،فَذُكر له ذلك، فقال: انما أنا بشر أذا أخبرتكم بشيء من أمر دينكم فأنما هو بوحي، واذا أخبرتكم بشيء من أمر دنياكم فأنما أنا بشر. هذه الرواية تدل بشكل واضح جداً بأن الرسول ينقل ما هو تام، ولا يقبل الخطأ عن طريق الوحي فقط لأنه كلام الله، أما ما يخص التجربة الحياتية والشخصية فهي قابلة للخطأ والصواب، لأن للرسول بُعدين، بُعد الألهام والوحي، وبعد التجربة الحياتية الخاصة، وقد حدث مثل ذلك في مجال الحرب، وهو بُعد يندرج تحت التجربة الأنسانية والحياتية للرسول، وذلك عندما تجحفلوا الى معركة بدر، وقد أقاموا في منطقة معينه فجاءه رجل من بني سلمة يقال له الحباب بن المنذر فقال (يارسول الله، أريت هذا المنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال يارسول الله فان هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء، ثم نقاتل القوم فننزله، ثم نغِّور ماوراءه من القُلب (الآبار)....فقال رسول الله لقد أشرت بالرأي (ابن هشام:ج2،ص204).
فالرسول (ص) لا يعلم الغيب الا مايعلمه الله منه، والروح من علم الغيب لكنه محظور علمها على الرسول، وقد جاء بالقرآن الكريم (يسألونك عن الروح قُل الروح من أمر ربي) (الأسراء:85) و جاء أيضاً (رَفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده...)(غافر:15)، فالروح أمر غيبي ولكنه مخصوص بالخالق، ولم يتاح لمخلوق ومنهم الأنبياء معرفته . ننقل في هذا الصدد للقاريء الكريم حديث يوضح فيه عدم علمه بالغيب الا مايعلمه الله به، فقد جاء على لسان النبي حديث يقول فيه (انما أنا بشر وانه يأتيني الخصم، فلعل بعضهم أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فانما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها) وهذا الحديث عن أم سلمة، وقاله عندما سمع خصومة بباب حجرته بين بعض المتخاصمين، فالموضوع المهم بالحديث، والذي يمكن أن نستنتجه، هو لو أن الرسول يعلم الغيب لما أحتاج أن يستمع أليهم، ولما قال بأحتمالية أن يكون الحكم لمن يكون كلامه ألحن من كلام خصمه فيحكم له، وقد يكون بسبب مايملكه من لباقة عالية في الكلام أتجاه خصمة فيكسب القضية وهو ظالم لخصمه، وهنا يحذر الرسول (ص) هذا الذي ألحن بكلامه وظلم خصمه بأن يتبوء مقعده من النار. كل هذه الحالات وغيرها الكثير والتي سنتطرق أليها في الحلقات القادمة لتدل دلالة واضحة على عدم أمتلاك الرسول للعلم بشكل غير محدود ولا يعلم بالغيب الا ما يمده الله به (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها الا هو) و (قل لايعلم من في السماوات والأرض الغيب الا الله ..)(النمل:65). فعلم الغيب هو حكر ألهي لا يشاطره به أحد من خلقه، وهو من يسمح بأفاضته على أحد من خلقه وبمستوى هو يقدره. سبق وأن قلنا أن الرسول محفوف برعاية الله بأعتباره ناقل أمين لوحيه، والمساهم في تربيته، والمزود له ببعض مفاتيح الغيب، التي شاءت قدرته أن يزوده بها لأمر متعلق بالرسالة، وليس لأنه محمد، وكل ذلك هو فضل من الله لنبيه لتكون عامل مساعد في تذليل كل مايعتريه من صعاب في طريق تبليغ رسالة ربه (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمَّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون الا أنفسهم وما يضرونك من شي وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً)(النسا133)، وخلاصة ما يمكن قوله في هذه الحلقة أن الرسول لم يكن قائل، وأنما مأمور بالقول، ولم يكن هو من يُجيب على سؤال السائل، وأنما ناقل للجواب، وينطبق نفس الحال على أمر الغيب، فكان صلوات الله عليه لا يعلم الغيب، الا بعد أن يُعلمه الله به (ان أتبع الا ما يوحى اليَّ)(الأنعام:50)، يمكنني هنا أن أذكر آيتين تفصح عن واقع حال الرسول (ص) بأنه محدود العلم والصلاحية (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً الا ماشاء الله) الأعراف:188) و (قل ماكنت بدعاً من الرسل، وما أدري مايفعل بي ولا بكم ان أَتبع الا ما يوحى اليَّ وما أنا الا نذير مُبين) (الأحقاف:9).... يتبع
***
أياد الزهيري