قضايا
أياد الزهيري: هكذا فهمت الرسول محمد في القرآن (2)
إعداد الرسول محمد:
كما ذكرنا في الحلقة السابقة بأن الرسول محمد (ص) أُسند ألية مهمة الإبلاغ عن الله الى الناس، وهي مهمة تتطلب صفات قيادية، ودرجة عالية من الإعداد والتدريب، مؤطرة بنسق أخلاقي عالي. أن مهمة الرسول (ص) مهمة ثورة حضارية مخطط لها أن تحدث أنعطافة تاريخية في مسيرة الأنسانية، فكان الأختيار الألهي لمحمد (ص) قائم على أستعداد فطري لدى الرسول (ص)، وهي مَلَكَة القيادة، وهي مَلكَة فطرية صقلها الله بتأديبه له، وهو من قال في حديث نبوي شريف (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، والأدب يعني الخُلق، وقد وصفه الله في القرآن الكريم (وإنك لعلى خلق عظيم)(القلم:4) وهذا الخُلق العظيم الذي تَخَلق به الرسول الأكرم محمد (ص)، هو ما أهله لمهمة أُوكلت له، في نشرها، وأشاعتها بين بني البشر، وقد عبر عن هذه الوظيفة بحديث له (انما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) و(يا أيها النبي انا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)(الأحزاب:45). يتضح للقاريء الكريم أن الرسول كان يحمل صفات قيادية أهلته للتصدي لموقع النبوة، والتي كملها الله بجولة من الإعداد والصقل لشخصيته الرسولية، وفي هذه الحلقة سنرى كيف أَعده الله عن طريقِ التوجيه والمتابعة لحركته في حقل عمله التبليغي، ونذكر هنا بعض الآيات التي يُنبهه الله فيها، ومثال ذلك هو عدم تحديد زمن لأجابة السائل وهو لم يمتلك الأجابة عنها من الله، وخاصة فيما يتعلق بأمور العقيدة والشريعة، لأن الأمر يتعلق بالله وليس به، وقد جاءت الآية التالية مصداق لذلك الأمر ( ولاتقولنَّ لشيء اني فاعل ذلك غداً)(الكهف:23)، هذه الآية تنبه النبي أو تذكره، ليس لك أن تحدد زمن الأجابة، وهو أمر ليس من صلاحيته يامحمد، وهذه الآية جاءت على ما سُئل به الرسول (ص) بثلاث أسئلة من قريش، والتي تَمركزت عن أخبارهم بالفتية الذين ذهبوا بالدهر الأول، وهم أهل الكهف، والثاني عن الرجل الذي طاف في مشارق الأرض ومغاربها (ذو القرنين)، والثالث عن الروح. فقد حدد الرسول لهم الأجابة بالغد، وقد رد الله عليه بالآية التي ذكرناها، وهو ضرورة أنتظار الجواب من الله لينقله اليهم، وليس من صلاحيته تحديد الوقت لأن زمام الأمر بيد الله، وليس بيده، بأعتبار أنه مُبلغ، وليس منتج للرسالة، ومن مقتضيات المُبلغ أن يلتزم بما يمليه عليه الذي يُبلغه، أما السؤال الثالث الذي سألوا به قريش عن الروح، فقد أحتفظ الله به لنفسه، ولم يُعلم به البشرية، ومنهم محمد رسول الله، وجعلها الله من خصوصيته، وهكذا تستمر الملاحظات والتنبيهات الآلهية من الله الى رسوله، والتي تسير بالتوازي مع العملية التبليغية، ومثال آخر عليها هو عدم التعجيل بأي أمر، قبل أن يُقضى اليه، وأن لا يفصح عن ما تخالجه به نفسه، بل ينتظر الى ما يوحى اليه، وهذه الآية توضح ذلك (ولاتعجل بالقرآن من قَبل أن يُقضي اليك وُحيه وقل ربي زدني علماً)، وهي آية واضحة المعنى في تسديد خطى الرسول (ص)، والتحذير من أستباق القول بالقرآن، قبل الأذن من الله. فهاتين الآيتين المذكورتين أعلاه تُلزم وتعلم الرسول الحذر والأنضباط والتأني في أصدار الأقوال خاصة التي يُسأل عنها، والتي يستمد جوابها من الوحي لأن أمانة الرسالة تقتضي هذا الأنضباط العالي، والدقة المتناهية في القول، بأعتبار ماينقله للناس هو كلام الله، وهو كلام تترتب علية أمور عقائدية وآخرى تشريعية، وتنبوئية وتاريخية تخضع للتطبيق العملي في الجانب التشريعي، وللنظرالفلسفي والعبادي في الجانب الأعتقادي، وللفحص والتدقيق في الجانب التاريخي، وهذه عملية يكون الخلل فيها كبير وخطير، ويرتد على الدين نفسة، وعلى الرسول (ص) بذاته أمام الله وأمام التاريخ. ومن مستلزمات النبوة وأستعدادات الرسولية ومتطلبات التبليغ الذي كُلف بهما الرسول الأكرم هو الحصول على العلم والأستعداد اليه، ومنطوق الآية الكريمة خير دليل على ما يسوقه الله له من طلب العلم (...وقل ربي زدني علماً) (طه:114)، وحث الله له في أول آية نزلت عليه بصيغة الأمر هي (أقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم....)(العلق:3). كما أشار الله الى صفة مهمة أراد الله لرسوله التحلي بها،الا وهي الصبر (فَاصبر كما صَبَر أُولو العزم من الرسل ولا تستعجل....)(الأحقاف:35) وكذلك (أصبر لحكم رَبك فانك بأعيننا....)(الطور:48) و(أصبر صبراً جميلاً)(المعارج:5) وكذلك (أتبع مايوحى أليك وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين)(يونس:109). فالرسول كان شخصية صبوره، وبيئته القاسية ساهمت في طول أناته، ولكن النبوة، ومهامها العصيبة تحتاج من الصبر ماتنأى منها الجبال، لأنه سوف يواجه في دعوته مجتمع صعب المراس، وقاسي الطباع، يتطلب تغيرهم طاقة كبيرة، وجهود عظيمة، ونفس طويل تجعل منه أن لايضعف أمام خصومه، ويهتز أزاء تقلبات الأمور، وتغير المواقف، وفعلاً كان لصبر الرسول (ص) الأستثنائي هو ما لفت الكاتب الأمريكي (مايكل هارت) في كتابه (العظماء مائة وأعظمهم محمد) بأن رشحه على رأس قائمة أعظم شخصية عبر التاريخ، وصاحب الكتاب عالم فيزياء فلكي أمريكي الجنسية، ويهودي الديانة، كما نشر عنه الكاتب المصري أنيس منصور الذي ترجم كتابه المذكور الى العربية. من الأمور التي تبين الرعاية والمتابعة والأعداد الألهي له هو عندما شاهد ما حدث لعمه الحمزة في معركة أحد وكيف قُتل بطريقه وحشية، حتى أَخرجت قلبه، ولاكت به هند زوجة أبي سفيان، فتعصب الرسول (ص) وقال (والله لأقتلنَّ بك سبعين منهم)، وكان الرسول في حالة أنفعالية، وهو كما قلنا بشر له عواطفه وأحاسيسه كباقي البشر، ولا يمكن عن يتجرد منه، ولكن كما قلنا أن رعاية الله له حاضرة، وتسديده له دائم،فنزلت الآية ( وأن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُقبتم به)(النحل:126)، فالرسول (ص) تراجع عن وعده هذا وأمتثل لأمر الله الذي تحدد بهذه الآية، فالرسول ليس أصيلاً في أحكامه، بل هو ذو صلاحية محددة ومقننة بشكل صارم.
كما أن لصاحب الدعوة شخصيته الكارزمية التي تشد الجمهور له، ولكن كما قنا كانت هذه الشخصية المحمدية تحت أعداد وتوجية ورعاية الله (المرسل)، فكانت من أشتراطات هذه الشخصية الدعوية والقيادية أن لا تكون لينة فتعصر، ولا صلبة فتكسر، فقد خاطبه الله ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك)(ال عمران:159)، وهذه الصفة من أكثر الصفات أهمية للشخصية القيادية على كل المستويات،سواء كانت اجتماعية أو عسكرية أو سياسية، وهذا مانلمسه في شخصية الرسول من صلابة في الحق، وقد أمره الله في ذلك (فصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) (الحجر:94) أنه أسلوب الشدة والأقرار والصرامة، والموقف القوي الذي يجب ان يتخذه الرسول(ص) في مواقف يستدعي لها الظرف، في حين يدعو الله نبيه الى العفو في مواقف آخرى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(الأعراف:199)، كما نرى الدعوة الى السماحة في آيات أُخر (فبما رحمةً من الله لِنت لهم...)(ال عمران:159)، وما دعوة الرسول في فتح مكة وما دعى مايشبه بالعفو العام لمشركي مكة والذين بعضهم مم تلطخت يده بدماء المسلمين، حيث قال لهم (أذهبوا فأنتم الطلقاء)....يتبع
***
أياد الزهيري