قضايا
علي حسين: هل يجب الاستمرار في طرح الاسئلة؟
كان يرتعش من الخوف، حين يُفكر بما سيقوله للخليفة عن خطته التي لم تنجح في وقف فيضان نهر النيل، يَّجمع شجاعته وفصاحته ويبدأ بمراجعة ما سيقوله امام الحاكم بأمر الله المعروف عنه حدة المزاج، توقف قليلاً، أيقن ان الحكم عليه سيكون شديداً، ليس أقل من قطع رقبته عقابا له على فشله .خمسة شهور من البحث والتقصي والدراسة ستكافأ بتعليق جثته على احدى بوابات المدينة . قال لأحد مساعديه: " اتركني وحدي يبدو أن الحمى تسيطر على جسدي " . كان قد وصل الى مصر بدعوة من الخليفة بعد ان قيل له ان هذا العالم البصري لديه خطة لتنظيم جريان نهر النيل، وإبعاد شبح الفيضانات عن المدن . ويخبرنا القفطي في كتابه اخبار الحكماء- تحقيق ابراهيم شمس الدين - ان الحسن بن الهيثم قال ذات يوم -: " لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملاً يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان، فأرسل اليه حاكم مصر جملة من المال وارغبه في الحضور، فسار نحو مصر، ولما وصلها خرج الحاكم للقائه، وامر باكرامه، وطالبه بما وعد به من أمر النيل " . جلس إلى مكتبته ينظر الى الخرائط التي وضعا لمشروعه الفاشل، قال مع نفسه لابد من طريقة تمنع عني غضب الخليفة ، بعد ساعات من التفكير المصاحب للخوف صرخ: وجدتها !. خرج على عائلته والشحوب يملأ وحهه، انه يتصرف تصرفات غريبة، ويتحدث بكلام غير مترابط، قال احد مساعديه أن الاستاذ يفقد عبقريته، ورأته زوجته شخصا آخر .قال الجميع ان الخوف اصاب عقله بلوثة فاصبح مجنونا، ارتاح لأراء الناس فيه، فادعاء الجنون أفضل من قول الحقيقة . يتصرف بجنون اكبر، وتنتابه حالات من الهذيان . يسمع الحاكم بما جرى له، فيقرر ان يعزله من منصبه وتجريده من كل الامتيازات وحدد اقامته في منزله. ما كان " ابن الهيثم " يطلب أكثر من ذلك، حتى يتفرغ لكتبه، ومن عتمة الاقامة الجبرية تولدت نظرية التي سيقدمها في كتابه المناظر " – ترجمة وتحقيق عبد الحميد صبرة، وقد ترجم الى اللغة اللاتينية عام 1270 بعنوان " كنز البصريات "، ويعد هذا الكتاب اول مساهمة حقيقية في علم البصريات، وكان له تاثير كبير على كل من الفيلسوف الانكليزي فرانسيس بيكون والالماني يوهانس كيبلر، وعلى بعض ما كتبه يوهان غوته في نظرية الالوان، وفي هذا الكتاب يصدر سلسلة من الشكوك على نظرية بطليموس التي كانت تقول ان اشعة الضوء تخرج من مقلة عين الشخص الرائي، وكان ابن الهيثم يسخر من هذه النظرية ويقول إذا كانت الاشعة تخرج من العين فلم لا نرى في الظلام . وهكذا نجد ابن الهيثم يضع نظرية للبصر ايضا اضافة الى نظرية الضوء، وكانت هذه المرة الاولى التي يتم الفصل بين النظريتين، حيث تمكن من الوصول الى استنتاج يقول ان ظاهرة الرؤية تحدث نتيجة انعكاس الضوء على الاجسام ودخول الضوء المنعكس الى العين وليس نتيجة مسح الاشعة الصادرة من العين لهذه الاجسام . يصف رشدي راشد كتاب المناظر بانه: " إحدى الإضافات الأساسية في تاريخ العلوم في كل الأزمنة، حيث نجح ابن الهيثم في عزل دراسة انتشار الضوء عن دراسة الأبصار، ما مكنه من استخلاص قوانين المناظر الهندسية، وكذلك قوانين المناظر الفيزيولوجية، كما مكنه أيضاً من أن يلج موضوع المناظر الفيزيائية. ولقد ترك هذا الكتاب بصماته على التاريخ بنتائجه العلمية وكذلك بتأثيره في علماء الحضارة الإسلامية وفي الكتابات اللاتينية ومؤلفات عصر النهضة والقرن السابع عشر الخاصة بهذا الموضوع" – دراسات في تاريخ العلوم العربية –،.ويكشف كتاب " المناظر " مقدرة ابن الهيثم في الطب بالاضافة الى الفيزياء، حيث يبدأ بدراسة تشريح وفسيولوجية العين ويتتبع عمل العين، ويصف بطريقة بارعة كل اجزائها، كذلك قدم عرضا موسعا لظاهرتي الخسوف والكسوف، وكان اول من قال ان ضوء القمر يستمد نوره من ضوء الشمس، ولا يضيء بذاته .
كان البحث في البصريات يُنظر اليه في العالم اليوناني هلى انه احد فروع الرياضيات شأنه شأن الفلك والميكانيكيا والموسيقى .واعتبره ارسطو من البحوث الرياضية " الأكثر قرباً من العلوم الطبيعية " – تاريخ العلم جورج سارتون -، فيما اعتبر ابن الهيثم البصريات بحثا مركبا من العلوم الطبيعية والعلوم الفلسفية حيث اعتمد في دراساته على المنهج التجريبي، فهو يكتب عند البحث في كيفية الابصار: " نبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح احوال المبصرات، وتميز حواص الجزئيات، ونلتقط باستقؤاء ما يخص البصر في حال الإبصار، وهو مُطرد، وظاهر لا يشتبه، من كثرة الاحساس، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والتدريب، مع انتقاد المقدمات، والتحفظ من الغلط في النتائج " – كتاب المناظر –
في تاريخ الفكر اليوناني كانت هناك الكثير من المتناقضات عن موضوعة " الابصار "، فقد كانت هناك نظريتان في الفكر الاغريقي الأولى: نظرية سميت الانبعاثات التي تفترض أن الإبصار يحدث اعتمادا على أشعة الضوء المنبعثة من العين، وقد نادى بها إقليدس وبطليموس، أما النظرية الثانية: نظرية الولوج، التي تقول بدخول الضوء إلى العين بصورة فيزيائية كان قد أيدها أرسطو وأتباعه، فجاء ابن الهيثم ليضع تمييزا لاول مرة في تاريخ علم البصريات بين شروط انتشار الضوء وشروط رؤية الاشياء . ولم يعد للبصريات المعنى الذي كانت توصفه به سابقا: هندسة احساس . لقد اصبحت تتضمن جزءين: نظرية للرؤية تشارك بها فيزيولوجيا العين وسيكولوجيا للإحساس، ونظرية للضوء يرتبط بها علم هندسي للضوء وفيزياء للضوء .كما قدم ابن الهيثم أول وصف واضح وتحليل صحيح للكاميرا المظلمة والكاميرا ذات الثقب. وكان أول من نجح في مشروع نقل صورة من الخارج إلى شاشة داخلية كما في الكاميرا المظلمة .
أرسى كتاب "المناظر"، بالإضافة إلى فيزياء البصريات، أُسس علم نفس البصريات. وبرع ابن الهيثم في دراسة ظاهرىة الالوان التي راى انها ظاهرة طبيعية اولية لحاسة العين تتجلى مثل بقية الظواهر من خلال عملية الفصل والتضاد والمزج والربط، ويؤكد حركية الالوان وتبدلها وسرعة نشوئها واختفائها وارتباطها وانفصالها . وهو يرى ان هناك علاقة فعلية بين اللون والاحساس، فكل لون يؤثر في الوجدان تاثيرا واضحا، والانسان ينشرح صدره للون بصورة عامة، انه يحتاج الى اللون احتياجه الى الضوء، وكل لون يهيء لحالة نفسية خاصة .
وأكد ابن الهيثم خلال كتاباته ضرورة تطوير النظريات بالاعتماد على التجريب وجمع البيانات بديلا عن التفكير المجرد، وفي كتابه "الشكوك ضد بطليموس" قال "على دارس الكتب العلمية بهدف معرفة الحقائق تحويل نفسه خصما لكل ما يدرسه، إن اتباع الدارس لهذا المسار يضمن كشفه للحقائق".
***
إن سيرة " ابو علي الحسن بن الهيثم " قصة عن مواجهة المعاناة، كما هي حياة الكثير من الفلاسفة في تاريخ الفكر الانساني ، إلا ان ابن الهيثم كان يدرك ان المعاناة توحد البشر جميعا، وان الطريقة المثلى للتغلب عليها ان نتجاوز معاناتنا من خلال التعليم، كان يصنع نفسه بنفسه عن طريق العمل المتواصل والمثابرة، يصفه ابن ابي اصيبعة: " كانت نفسه تميل إلى الفضائل والحكمة والنظر فيها، ويشتهي أن يتجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في العلم. فأظهر خبالاً في عقله وتغيراً في تصوره وبقي كذلك مدة حتى مكن من تبطيل الخدمة، وصرف من النظر الذي كان في يده. ثم إنه سافر إلى ديار مصر، وأقام بالقاهرة في الجامع الأزهر بها. وكان يكتب في كل سنة إقليدس والمجسطي ويبيعهما، ويقتات من ذلك الثمن " - عيون الأنباء في طبقات الأطباء تحقيق عامر النجار -
الطفل الذي ولد باحدى ضواحي مدينة البصرة في الاول من تموز عام 965 م وجد صعوبة في اكمال تعليمه، فقد توفى والده وهو صبي، وكان عليه ان يعمل ليعيل امه وشقيقته، كان ضعيف الجسد، قصير القامة اصيب بعدد من الامراض، لكنه تغلب عليها، شعفه بالتعليم دفعه لان يذهب الى سوق الوراقيين للحصول على بعض الكتب، قلة المال والعمل في النهار جعلته يفكر أن يعمل ليلا عند احد الوراقين ينسخ الكتب، كانت هذه حياته الثانية كما سماها، يمسك الورقة يخط عليها حروفا، ويستمر في هذا العمل سنوات، حتى اصبح من اشهر النساخين . يكتب ابن القفطي في اخبار الحكماء: " سمعت ان ابن الهيثم كان ينسخ في مدة سنة ثلاثة كتب، فإذا انتهى من نسخها جاء من يعطيه فيها بعض النقود، وكان يجعلها مؤنة لسنته "، واثناء عمله في مهنة النسخ كان يَّدرس كتب الفلاسفة الاغريق ويضع ملخصات لها وشروح ويضيف لها بعض اراءه . في العشرين من عمره ينشر كتابه الاول " الجامع في اصول الحساب " مما يلفت انظار والي البصره اليه، فيطلب منه ان يترك مهنة نسخ الكتب ويلتحق للعمل في ديوان الولاية، لم تمض شهور قليلة في عمله الجديد، حتى وجد نفسه غريبا على المكان، فقد اعتاد مهنة نسخ الكتب التي تتيح له القراءة والبحث، فيقرر ان يقطع علاقته بالوظيفة: " ان الحياة الحقة هي التي نقضيها بين الكتب " . قال لاحد اصحابه الذي حذره من غضب الحاكم، فرفض الوظيفة يعني عصيان للاوامر، ولم يكن هناك من سبيل سوى مغادرة البصرة ليلا، والفرار الى بغداد، هناك يتفرغ للكتابة والقراءة ويعود لنسخ الكتب، كان ابن الهيثم يعلق اهمية كبيرة على دراسته للفلك ، فقد كان يسعى الى تأسيس علم فلك جديد قائم على مبادئ التناسق بين الواقع المادي للعالم الذي نعيش فيه وعلم الرياضيات، وقد كان يسخر من الحديث عن الحركات الخيالية للكواكب كما كتب عنها بطليموس . ليضع اسسا جديدة لعلم الفللك العربي الذي اراد من خلاله ان يبرهن ان التراث الفلكي اليوناني يعاني من العيوب ومن التاقضات وعلى حد تعبير المؤرخ سيد حسين نصر فان الابداع الذي قدمه ابن الهيثم يعد: " الاكثر اهمية والابرز بعيدا عما جاء به بطليموس من آراء ونظريات في علم الفلك .. وان الابتكار الذي توصل اليه كوبرنيكوس في علم الفلك موجود بالفعل في اعمال الحسن بن الهيثم ونصير الدين الطوسي " – العلوم في الاسلام ترجمة مختار الجوهري.
كان التشرد صفة لازمت ابن الهيثم، فما ان وجد فسحة من الاستقرار والعمل في بغداد حتى تعرض الى محنة جديدة وهذه المرة بسبب كتابه " في علم الهيئة " حيث اثار الكتاب حفيظة رجال الدين الذين وجدوا فيه زندقة وخروج على ثوابت الدين لانه يتعرض لحركة الكواكب، ولم يكن هناك من خيار سوى الهروب من جديد وهذه المرة الى يلاد الشام، حمل معه كتبه وقليلا من المال يكفيه لاشهر لانه اعتاد على حياة الزهد، قرر ان يتفرغ للكتابه فانجز كتابه " حل شكوك اقليدس " ويخبرنا ابن النديم ان سمعة ابن الهيثم سبقته الى الشام، حيث يقرر احد الامراء ان يمنحه بعض الاموال لمساعدته رفض ذلك فائلا: " يكفيني قوت يومي، فما زاد على قوت يومي إن امسكته كنت خازنك وإن انفقته، كنت قهرمانك، ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الامرين فمن الذي يشتغل بامري وعلمي ."، في دمشق يبدأ بحوثه عن السدود والفيضانات ويطرح فكرة بناء سد على النيل .
بعد سنوات من العزلة في القاهرة، تأتي الاخبار بوفاة الحاكم بامر الله، فيقرر ابن الهيثم الخروج من منزله، لقد تحرر اخيرا من الخوف، ولم يعد هناك سببا لتمثيل حالة المجنون، ويستطيع الآن ان يواصل عمله، يلقى عناية واهتمام من شقيقة الحاكم بامر الله " ست الملك " التي كانت وصية على العرش .. يسكن في مسكن صغير قرب الجامع الازهر، ويتفرغ لدراسة الرياضيات وينخرط في اعمال تتعلق بعلم الضوء، ويواصل عمله بنسخ الكتب، يعاني من تكاثر الامراض وسوء حالته الصحية ،، صاب بضعف في البصر، في العام 1039 تشتد عليه امراض الشرايين ، فتضعف قدرته على العمل شيئا فشيئا، ليتوفي في السادس من اذار عام 1040 م . قبل ان يتم عامه الخامس والسبعين بشهور قليلة .
***
قليل من المفكرين والعلماء العرب من قاموا بمهمتخم بجدية وصمت وانعزال كامل عن العالم كما فعل الحسن بن الهيثم، فرغم فقره وحاجته الى المال، لكنه كرس حياته للفكر إيمانا منه بأن ما تقدمه المعرفة للانسان من يقظة للعقل تجعله يتغلب على مصاعب الحياة ، ولهذا نجد ان الاعمال التي قدمها تزحر بحيوية فائقة من خلال طرحها موضوعات تثير الجدل وتساهم في تنمية الفكر العلمي، يكتب المستشرق دي بور: " ابن الهيثم احد اقطاب الرياضيين والطبيعيين العرب، وكان عالما ايضا بالطب وبسائر علوم الاوائل خصوصا فلسفة ارسطو " – تاريخ الفلسفة في الاسلام ترجمة محمد ابو ريده - .كان ابن الهيثم قد استنتج ان الانسان ليس بحاجة حقيقية إلا لاشياء قليلة تساعده على العيش . وقد اقترح أن نفكر في ممتلكاتنا من زاوية الحد الادنى الذي يسمح لنا بالاستمرار بدلا من تكديس الاموال . وكان يرى ان المال امر لا موجب له، لأنه لا يفيدنا في تطوير عقولنا . وعلى غراره الفارابي الذي كان يقدر اعماله الفلسفية كثيرا، كان يحب العزلة لأنه يرى فيها تمرين للعقل .كما ظل يردد ان الفلسفة اقصر الطرق لمعرفة الحق: " خضت ضروب الاراء والاعتقادات وانواع علوم الديانات فلم احظ من شيء منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجا ولا الى الرظا اليقيني مسلكا جديدا، فرأيت انني لا اصل الى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الامور الحسية وصورتها الامور العقلية . فلم اجد إلا فيما قرره ارسطوطاليس . فلما تبينت ذلك افرغت وسعي في طلب علوم الفلسفة وهي ثلاثة: علوم رياضية وطبيعية والهية .. ثم شفعت جميع ما صنعته برسالة بينت فيها ان جميع علوم الامور الدنيوية والدينية هي من نتائج العلوم الفلسفية " – الحسن بن الهيثم بحوثه وكشوفه مصطفى نظيف - .وهكذا نجد ابن الهيثم يرى ان الفلسفة وحدها التي باستطاعتها حل المسائل الدينية والعلمية والحياتية، وهو رأي يناقض الكثير من اراء الفلاسفة المسلمين الذين حاولوا الجمع بين الفلسفة والدين .
يوصف ابن الهيثم بانه فيلسوف علمي، فقد كان يرى ان المنهج العلمي القائم على المراقبة والتجربة هو المنهج الذي يجب ان يتبعه الفلاسفة الامر الذي دفعه الى نشر كتابه: " ثمرة الحكمة " – تحقيق عمار الطالبي – والذي تناول فيه تعريف الحكمة، ومدى اهميتها في حياة المجتمعات، ثم يتطرق الى مسائل مثل السعادة والخير، وموضوعة الانسلن الكامل، إلا ان المسالة المهة التي ناقشها ابن الهيثم هي دور الجانب التربوي في صياغة العقل البشري، ذلك انه ينصح بأن التعليم ينبغي ان يبدأ بالرياضيات اولا ثم المنطق ثانيا، فتكوين العقل كي يُعد للتفكير تفكيرا منطقيا، لا بد ان يبتعد عن التلقين والحشو والحفظ، فالرياضيات تعلم الصدق وتطرد الخرافات وانها: " علم به يصفو ذهن الانسان وتتهذب اخلاقه، نفي الاشياء التي لا حقائق لها، وإثبات الاشياء الحقيقية " – ثمرة الحكمة ابن الهيثم -، وهذا يعني ان غرض الفلسفة هو السعي الى نشر الحق والعمل به وتهذيب الأخلاق واشاعة المدنية، لأنّ صناعة الفلسفة كما يصرح بابن الهيثم " هي صناعة بها يرتاض المبتدئ في معرفة البرهان حتى تثبت في نفسه صورته، ولا يقبل من البراهين التي تعرض عليه إلا ما طابق ذلك البرهان وساواه "، والفلسفة التي قوامها الرياضيات والمنطق تساعد الانسان في بناء خطاب يتسّم بالدقة والصرامة والتماسك، وهي تنفع أيضاً في تدبير شؤون الإنسان. ولهذا يرى ابن الهيثم ان الانسان لا يمكن له ان يُصبح كاملا إلاّ إذا سار في افعاله وفق مقتضيات العقل، فالموجود الحقيقي إنما هو الموجود العقلي، لا الموجود الحسي ويعود ذلك في رأيه الى سببين احدهما ان الحواس كثيرة الاخطاء، والسبب الثاني ان الاشياء المحسوسة ليست لها حقيقة ثابتة . فالعقل اداة الفلسفة، لذلك يجب ان لا يستهان بقيمته ابدا . وبما ان وظيفة الحقيقة قيادة البشرية الى الخير والسعادة، فلا ينبغي اهمال دور العقل . كما ان العقل يجب ان يتحرر من الفردية الضيقة ليؤسس لعلاقة ممكنة مع الآخرين، فتهذيب العقل والنفس ليس نشاطاً معزولاً عن الآخرين، بل يفترض رباطاً اجتماعياً، ولا يكون ذلك ممكناً إلا إذا كان حياً ونابضاً بالحياة.
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية