قضايا
صابر جيدوري: الجامعات السورية والثورة
كثيراً ما تساءلت خلال سنوات الثورة عن موقع الجامعات السورية من الثورة، ولماذا كانت المظاهرات تخرج من الجوامع وليس من الجامعات، مع أن المنطق يقول: إن الجامعات هي التي يفترض أن تغرس في نفوس الطلبة منظومة القيم والحقوق وطرق التفكير الناقد التي تدفعهم إلى الثورة إذا ما تعرضت حقوق الناس وحرياتهم للخطر، ففي كل الدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها يومًا ما على الاستبداد مارس منطق النقد ذو الخلفية الحقوقية دورًا متميزًا في الثورة، ونزع عن قمة هرم السلطة السياسية قداسة الأب أو المعلم التي كثيرًا ما احتمى بها الحكام العرب عمومًا.
ولكن من المحزن القول: إنه منذ تسلم البعث السلطة في سورية ومهام الجامعات انحصرت في العمل التعليمي الأكاديمي فقط، حتى لا يستطيع أحد أن يرصد لها إسهامات متميزة في المجال الثقافي أو التنويري، وإن حصل ذلك فلا بد أن يكون منسجمًا مع نسق السلطة السياسي والثقافي، لذلك بقيت مسألة الثقافة مهمشة وخجولة ومحدودة جدًا، ولم تستطع الجامعات كمؤسسات تعليم عال أن تقوم بدورها في المساهمة البارزة في دفع الحراك الثقافي، لا باتجاه العلم والتكنولوجيا التي تدرسها وتخرج الطلبة على أساسها، ولا باتجاه تعزيز ثقافة الثورة، ولا في حل بعض المشكلات الثقافية، ويعود ذلك بطبيعة الحال الى محدودية استقلال الجامعات، وتدخل السلطة الرسمية بالإدارة، وتغليب السياسي على الفكري والثقافي، كما يعود أيضاً الى ضآلة الدور الذي قامت به الجامعات في انتاج علماء ومفكرين متميزين وبارزين، وعدم انتاج قادة رأي طليعيين مؤثرين في الرأي العام ومؤثرين في المجتمع، وقادرين على توجيهه بالشكل الذي يعزز النهوض في المستقبل.
وإذا ما أضفنا إلى ما سبق تحويل الجامعات إلى مراكز أمن لمراقبة كل ما يقال فيها من قبل الطلبة وأعضاء هيئة التدريس على حد سواء، عندها ندرك أن الجامعات لم يكن لها يومًا أية مساهمة بالثورة، بل نستطيع القول: إنها شكلت بمخزونها المعرفي قوة دعم للنظام في حربه على الشعب السوري، وهذا ليس غريبًا على الجامعات السورية التي تم تخريب منظومتها القيمية، والسيطرة عليها أمنيًا، مما جعل معظم أعضاء هيئة التدريس يسجلون مواقف مخزية من الثورة، ومن مختلف القضايا القائمة على الفساد والجريمة السياسية.
وفي هذا السياق أشار المفكر التربوي السوري "علي وطفة" في مقاله عن "أكاديميو الاستبداد" إلى أنه "خلاف الدور النقدي المتوقع من الأكاديميين بدا واضحًا أنهم كانوا أكثر وفاء للظلم والقهر. وعلى خلاف الدور الإنساني الذي يفترض بأساتذة الجامعات أن يقوموا به من نقد للظلم والعنف والاستبداد عمل فريق كبير منهم على تمجيد الاستبداد وتبرير البطش الذي يقوم به الطغاة ضد شعوبهم. ومن الواضح أن أنظمة الاستبداد وجدت في هذه الطبقة من أساتذة الجامعة طليعة آثمة متوحشة انبرت للدفاع عن القهر السياسي وتمجيد القمع الاجتماعي الذي تمارسه هذه الأنظمة السياسية ضد شعوبها".
إن المستقرئ لواقع الجامعات السورية يُدرك أنه من الصعب أن تنخرط الجامعات بالثورة للأسباب السابقة التي ذكرتها، ولأسباب أخرى يصعب حصرها في مقال، وحتى أعضاء هيئة التدريس الذي انتفضوا دفاعاً عن أهلهم، فمعظمهم أما قُتل، وأما سُجن، وأما في المنافي. لذلك عندما انطلقت شرارة الثورة في درعا انطلقت من جامع وليس من جامعة، لأنه يتعذر أن يجتمع عشر طلاب في جامعة، ويرفعون لافته ينددون فيها بممارسات النظام، أو يُرددون شعارًا ضد عبث النظام وفساده، وإن حصل ذلك لن يكون مصير الطلبة إلا الاعتقال والموت.
من هنا يمكن القول: إن تغييب دور الجامعات وعزلها عن الثورة قد أضر بالثورة كثيراً، لأن الجامعات لم تستطيع أن تمارس ما مارسته الجامعات الفرنسية في القرن الثامن عشر وما قبله، التي طرحت مبادئ مناقضة للواقع السائد سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا في فرنسا، والتي كانت من أهم العوامل التي وجهت الثورة الفرنسية لتكون مؤسسة على أيديولوجية المساواة والحرية في مواجهة النظام القديم المؤسس على الامتياز وسلطة الملك المطلقة.
***
د. صابر جيدوري