قضايا
صادق السامرائي: النقد الغائب والفعل الخائب!!
النقد تفاعل حضاري يساهم في التطور والرقاء، وبحاجة إلى وعي جمعي وثقافة تسامحية تفاعلية ذات قيمة إنسانية، مؤثرة في صناعة الحياة الأفضل.
وفي مجتمعاتنا يغيب النقد، وتتخمر السيئات في أوعية التجاهل والغفلة وعدم الشعور بالمسؤولية.
ومن الواجب أن تدرك الأجيال قيمة النقد للوصول إلى الحقيقة، التي بموجبها تتحدد مسارات الصيرورة الجماعية، وتتحقق الأهداف المنشودة.
وهذه إطلالة على النقد من بعض الزوايا:
أولا: نقد العقل أم السلوك؟!!
المفكرون العرب إهتموا بنقد العقل، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، ولا تزال مشاريعهم في ذروتها، لكنها لم تخلص إلى نتيجة ذات قيمة حضارية وتفاعلية تساهم في البناء والتقدم والتحضر.
والعلة تكمن في أن النقد موجه إلى حالة غير موجودة أو مفقودة ومغيبة ، وكأننا ننتقد السراب أو الدخان، ولهذا لم ينجح المفكرون في بناء المناهج المعاصرة الكفيلة بنقل العرب إلى حالة متفاعلة مع زمانها ومكانها.
فأين العقل الذي ننتقده؟
وما هو ذلك العقل؟
وهما من الموضوعات اللا مُفَكر بها عبر الأجيال.
فالخطاب يتوجه نحو العقل، والعقل غائب أفقيا وعاموديا، فالمجتمع لا يستعمل عقله، ومنذ الصغر ينشأ الناس على تعطيل العقل، والجري وراء "قال"، وكل ما عداها محال.
فالمجتمع فيه قِوى وإتجاهات تلغي العقل وتحرّم إستعماله، وتدعو للتجهيل والتعويل على الذين يوهمونهم بأنهم يمثلون الدين، فتحول البشر إلى عبيد عندهم، وبضائع في أسواق متاجراتهم بالدين.
ولهذا فأن نقد العقل لا يمكنه أن يأتي بنتيجة ذات قيمة، لأن البشر عبارة عن مقاطعات مملوكة لقوى تسخرها لما تشاء، ولا يمكنها أن تتصرف وفقا لما تشاء، وإن تساءلت أو نظرت وتفكّرت، فأنها ستحسب من الخارجين عن التقاليد ومن المرتدين والكافرين .
إن مخاطبة العقل أو نقده لن تأتي بأكلها إن لم يتحرر الإنسان العربي من أصفاده ويدرك أن في رأسه دماغ ومن واجبه أن يستعمله مثلما يستعمل يديه، ولا يكون خانعا وتابعا ومعتقلا في أضاليل الذين يمتهنونه، ويحاصرونه بالفقر والقهر والحرمان من أبسط الحاجات.
فالأمة بأجيالها تضع العقل على الرف، ولا تعرف أن تفكر، و تسأل و تتصور وتبحث عن جواب غير الذي يتم تلقينه لها مرارا وتكرارا وعبر الأجيال.
وهكذا فأن الخطاب العقلي لا يلقى رواجا، والذي يسود هو الخطاب الإنفعالي العاطفي الذي يتفاعل مع النفوس ولا يقترب من العقول.
ومن هنا فأن الواجب يقع على الذين يجيدون مخاطبة النفوس، وإخراجها من أقبية الضلال التي تكبلها وتقضي على الوجود المجتمعي، بما تؤججه فيها من مرادات السوء والبغضاء والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، الذي تسوغه أنى تشاء أسواق بضائعها النكراء.
ثانيا: القائد بحاجة إلى نقدٍ ومعارضة!!
القائد هو الذي يعبّر عن إرادة مَن يقود، فهو صاحب مؤهلات وقدرات إستشرافية وآليات إدراكية، ومهارات تنفيذية تساهم في تحقيق مصالح شعبه أو مجتمعه أو دائرته ومؤسسته، أيا كان موقعه القيادي.
ولابد من إمتلاكه لقدرات إلهامية وقابليات تحفيزية، تثير في مَن يقود الحماس والإرادة للوصول إلى الهدف المطلوب وفقا للرؤية القيادية، ويكون صاحب أفكار، ويتمكن من التواصل بوضوح مع الآخرين.
ونزيها وأمينا صادقا، يقدّم حلولا ويحلل المواقف والمواجهات، ويبحث عن النتائج، ناجحا في علاقاته، مهنيا، يمتلك ستراتيجية، ويساهم بتطوير الآخرين وإبتكار القدرات.
ولا يمكنه أن يصل إلى نتائج ذات قيمة إنجازية ومؤثرة في التقدم والرقاء إن لم يكن متفاعلا، وقادرا على قراءة ما يجيش في أعماق الذين من حوله وتحت إمرته، ولهذا فهو بحاجة إلى نقدٍ وتقييم وتقدير لما يقوم به ويقرره، بمعنى أن عليه أن يُخضِع قرارته وتصوراته للنقد ولفحوصات معارضيه لكي يبصر سواء السبيل، وإلا فأنه سيكون كالميت الذي يتفاعل مع الحياة.
وهذا المفهوم للقائد يغيب في المجتمعات التي تقاسي ويعم فيها الفساد، وتهيمن على وجودها التداعيات والإنكسارات المتنوعة، ويخيّم على وجودها الإحباط واليأس والقنوط، وعدم الثقة بنفسها وحاضرها ومستقبلها.
فأول عاهة إعتبار المعارضة أعداء، وأي رأي معارض عدوان، والنقد إعتداء سافر على مقام السلطان، فالواقع الذي يؤدي إلى تداعيات مريرة، يؤكد إنتفاء مفهوم القائد وسيادة مفهوم الفردية والنزقية والتبعية، وتعطيل العقل ومصادرة الرأي، والقضاء على ما هو صالح لخدمة الوطن والمواطن.
فالعلة الكبرى أن الذي يتسنم المسؤولية في هذه المجتمعات يعيش في عالم منقطع عن الواقع الحقيقي للحياة، ويكون متأثرا بالمراسيم البروتوكولية والتفاعلات التبجيلية، التي تخرجه من كونه من بني آدم وتوهمه بأنه قد إعتلى عرش فرعون وأكثر، حتى ليُصاب بتشويشات إدراكية وتفاعلات هذيانية ووهمية تدفع به إلى إتخاذ قرارات فجائعية بحق نفسه وحزبه وشعبه وغير ذلك، وقد حصلت مثل هذه الحالات في مجتمعات عديدة أودت بالقادة إلى نهايات مروعة، بسبب الإنقطاعية وفقدان الحاسة القيادية الحقيقية، وعدم الشعور بأن الزمن يتحرك والدنيا تتبدل، فيتوطن القائد بركة من الأفكار والأوهام التي تتعفن وتفسد وتقضي على مَن فيها.
وعليه فأن القائد الحقيقي هو الذي يكون متقبلا للنقد ومُراجعا لما يقوم به، ومصغيا للمعارضين وتقييم وجهات نظرهم وآرائهم، والعمل على الأخذ بها أو ببعضها وعدم إهمالها والنظر إليها بعين الكراهية والعدوانية التي تتسبب بزيغان البصر.
فهل لدينا قادة بهذه المواصفات لكي تتقدم مجتمعاتنا ؟!!
ثالثا: النقد الحُكمي والسلوك الحتمي!!
أجاب أحد القراء الحاذقين عن سؤال، لماذا يتخذ الناس سُبلا تتعارض مع الحقائق والأدلة العلمية ويجنحون نحو إتباع الغيبيات، بقوله أن المثقفين والكتاب يوجهون لهم إنتقادات عامة وشديدة، مما يجعلهم في موقف دفاعي وتحدي رافض لما يصفونهم به!!
توقفت عند هذا الرأي أو الجواب وتفحصته جيدا!!
فهو رؤية من زاوية مختلفة تماما ويشير إلى نظرة تستحق الدراسة!!
فالسائد في الكتابات المنشورة أن الكاتب يضع نفسه في صومعة المثالية والعلائية، ويبدأ بالكتابة عن الحالة التي يتصدى لها، وأول ما يتناوله أنه يلغي العقل الجمعي ويحسب الناس قطيعا خانعا لقوة ما تتحكم بمصيرها، فينهال عليها بالأوصاف والتسميات التي تستحضرها ذاكرته ويبدعها قلمه، ولو أنه وُضِع مكانها لتصرف بأشد مما تتصرف به!!
فالأقلام تنهال على المجتمع وتشحذ فيه طاقات التمسك بما يقوم به وإن عَرَفَ بأنه خطأ، وذلك ردا على العدوان الواقع عليه من الكتاب والمثقفين، وبسبب ذلك فقدَ الكاتب والمثقف دوره في بناء الإنسان ومساعدة المجتمع للخروج من محنه المتواكبات.
أي أن الكاتب يساهم في شل المجتمع وتحرير طاقاته السلبية، ولا يعرف كيف يساعده على الإستثمار بطاقاته الإيجابية الصالحة لبناء الحياة الأفضل.
والواقع الحقيقي أن الناس موضوعة في صندوق، وتنهال عليهم القوى الطامعة فتجردهم من الإرادة والخيار وتندفع في تعليمهم العجز والإستسلام، ويأتي الكتاب ويزيدون الطين بلة، فيعززون السلوك الذي تريده القوى الطامعة بالبلاد والعباد.
والمطلوب أن يتنبه الكتاب إلى ما يكتبون، وكيف يكتبون ويختارون المفردات ويضعونها في عبارات ذات قيمة إيجابية، بدلا من التفاعل السطحي الإنفعالي الحُكمي المؤذي لمسيرة الحياة، والذي يدفع إلى مزيد من التداعيات والخسران.
فهل لنا أن نكون مع الجماهير وفيهم عندما نتناول ما يخصهم من الموضوعات، ونبتعد عن الخيالات والتصورات المستحضرة من المدن الإفلاطونية، والأوهام والهذيانات السرابية، التي إنشغل بها المفكرون والمثقفون العرب، وما إستطاعوا أن يؤسسوا لتيار فكري حضاري نهضوي معاصر.
رابعا: النقد النفسي!!
هو القراءة الموضوعية المحايدة للحالة بمنظار نفسي سلوكي بحت، ولا يعنيه الخطأ أو الصواب، وإنما تسليط الأضواء النفسية والسلوكية، ولتأكيد الرؤية التي تظهرها الأسئلة التي تطرحها، وهي مساهمة في التنقية والتطهير من الأضاليل الملوثة للحالة أيا كانت.
فالنقد النفسي ناصع طاهر مجرد من الميول العاطفية والمواقف المسبقة والتصورات المؤدلجة.
إنه ينظر بعيون السؤال ويبحث عن الجواب، ويغوص في حيثيات الحالة وفقا لمعطيات مكانها وزمانها، ولا يفرض عليها ما يعيشه في عصره الذي قد يبعد عنها قرونا عديدة.
ويبدو أن ما ينقص الواقع الفاعل فينا، أن القراءة النفسية غائبة، وما يسوده القراءات الإنحيازية المؤدلجة المتطرفة، الغارقة بالتبريرية والتسويقية، والهادفة لإستعباد الأجيال وتضليلها لأغراض معادية لروح الأمة وجوهر دينها، ومانعة لتطلعات أجيالها وقدرتهم على الحياة الأفضل.
وقد يرى فيها البعض غير ما تذهب إليه ويحسبها عدوانا عليه، وهذه مشكلته لأنه متسلح بعواطفه ومتخندق في ترسانة إنفعالاته، التي تمنعه من إعمال العقل وتوظيف طاقاته لما يحقق طموحاته ويكشف الغشاوة عن بصيرته، ويريه الحقيقة ويجرده من الضلال والبهتان والدجل المعفر بالقدسية والإمتهان.
وقد يبدو النقد النفسي خطيرا وخارجا عن النهج العام ويتجاوز الخطوط الحمراء، وقد يُتهم أصحابه بالكفر والزندقة والإلحاد ويتحقق الإعتداء عليهم.
وهذا سلوك المعادين للصراط المستقيم، الذي ما أن تلد الأمة من يأخذها إليه، حتى تثور ثائرة الوحوش الكامنة فيها، فتكشر عن أنيابها ومخالبها وتنقض على أصحاب الرأي من المصلحين والمفكرين والمنورين.
وكم عانت الأمة وأعطت من الشهداء على هذا الطريق الذي لا بد لها أن تسلك لأن ما ينفعها سيبقى وسيذهب الجفاء.
ويموت الضلال والتضليل وتدرك الأمة جوهرها وحقيقة دورها، ومعنى ذاتها الإنسانية.
وهكذا فأن من ضرورات المواكبة والمعاصرة والجريان الدافق في نهر الحياة، أن تستوعب المجتمعات أهمية النقد ودوره في إطلاق ما فيها من الطاقات والقدرات الأصيلة، لكي تكون بحجم ذاته ويسطع جوهرها.
فهل من جرأة في إعمال العقل، والنقد العلمي الواعي البنّاء؟!!
***
د. صادق السامرائي