قضايا
صادق غانم الاسدي: د. علي الوردي كان جريئا بنقده المجتمع العراقي!
رحل من الدنيا مهموما مثقلا بالافكار مملوءا بالنظريات أنغمس بعقله لفهم الأزدواجيه لم يتعصب يوما يسمع ويبتسم لكثير من نقاده ليرد بالادلة القطعية والمنهج الموضعي، ولكنه سيبقى في ذاكرة التاريخ تلهج الألسن باسمه وتسطر الأنامل ارثه وضل منهجه محور الجدل مابين الحقيقة والبحث عنها والمجردة من فكره الاجتماعي ونقده السياسي الصريح والجريء البعيد عن المجاملة والمبالغة، ترك الدنيا من غير معرفة نهاية جولته ايهما المنتصر النهائي البداوة ام الحضارة، وتغالبت عليه صفحات وكتب النقد والتهجم عليه خلال حياته من قبل وعاظ السلاطين واذيالهم حتى استبيح دمه لأكثر من مره علنا ً، لم يشهد كاتب ومفكر دخل معترك الاجتماع والثقافة والدين وانتقد السياسة والنحو وابحر منهما دون أن يغرق في امواجها، أستراح في غرفته وعلى سريره البسيط مسجى بعد تعب وكفاح طويل دام من ولادته عام 1913 الى يوم وفاته 13/7/1995، غادر عملاق الفكر الأنساني رائد علم الاجتماع الحديث في العراق ولم ينتهي الجدل بعد وحصل كل عشاقه ومتابعيه على ذكريات مع كتبه من متعة فكرية وثقافة اجتماعية، معظم ابحاثه كانت مرٌكزة على صراع البداوة والحضارة والتناشز الاجتماعي وزدواجية الفرد العراقي والتي عممها على الفرد العربي ومعتركها في جميع المجتمعات، ووضع لها البلسم وعلاج لاغلب المشاكل والصراعات في المجتمعات بالديمقراطية الحديثه وهي اساس بنا الحضارة وتقدم الفكر الآنساني، كان على الوردي رحمه الله جريئاً بنقده المجتمع العراقي مما اظهر له الامر ان يجتمع بمخالفيه ويكٌونون جبهة ضده من اليمين واليسار، ووصف العراق في احد مقالته (عادة ما أشبه العراق بأمرأة اسمها (غنيه) حسناء لبيبه مترفه ثرية ومكتنزة بالحلي ومرتدية حل مقشبة يحف بها بداة حفاة اجلاف رث الثياب شبقين كل منهم يريد وطأها، لكن كل منهم يخشى سطوة الأخر وليس سطوتها كونه أمة واهنة.. ثم يقول الكل ينتهز الغفلة للانقضاض عليها، حتى وطئها الجميع وكانت ولادتها هجين من أرومات هولاء البداة) ثم بين الوردي على ان الفرد العراقي واقع بين القيم الاجتماعية المتناقضة من قيم البداوة وقيم الحضارة وقد نتج عن ذلك صراع مستمر بين بدوي غالب وحضري مغلوب، وهذا صراع عان منه الشعب العراقي، ومن زاوية اخرى يجد الدكتور العلاج الناجح للشعب العراقي وهو نظام الديمقراطي وكما وصفه (أن الشعب العراقي منقسم على نفسه وفيه من الصراع القبلي والقومي والطائفي أكثر من أي بلد آخر، وليس هنالك من طريق لعلاج هذا الانقسام سوى تطبيق النظام الديمقراطي، الذي يتيح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية، وعلى العراقيين ان يعتبروا من تجاربهم الماضية ولو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امداً طويلا!) ما اشبه ما قاله الوردي وتحديات المرحلة لهذا اليوم في العراق، ويحث العلامة الوردي رحمه الله بقوة على نظام التصويت منذ عام 1954 في كتابه وعاظ السلاطين حينما قال (لو كنت من أرباب العمائم لا أفتيت باعتبار التصويت واجبا دينيا، ولجعلت التقاعس عنه ذنبا لايغتفر،، أني اعرض هذا الرأي على رجال الدين واتحداهم أن يقبلوه او يحققوه) وقد تأثر الدكتور الوردي بطروحات وافكار ابن خلدون وبارائه ودرس المجتمع دراسة متمعنة، وكان اول من دعا الى علم اجتماع عربي يدرس المجتمع العربي في ضوء خصوصياته الجغرافية والثقافية انطلاقا من طروحات ابن خلدون، كما ركز الوردي ايضا على عامل البداوة وقيمها واثرها في تكوين الشخصية العربية، ومن حيث خصوصيات البداوة وتقاسيمها، انفرد الدكتور على الوردي في مركبات الثقافة البدوية بعد ماطرحها (براون) وهو احد المستشرقين الانكليزي ونال شهرة في دراسته للابحاث الشرقية وكان يجيد التحدث باللغة العربية والفارسية، وقد طرح اربعة فضائل عن البداوة هي الشجاعة، والكرم، والولاء للقبيلة، والثأر، في حين يقول الوردي عن ذلك ان الفضائل ثلاث هي العصبية، والغزو، والمرؤة، وهذا دليل واضح ان العلامة الوردي استنبط ذلك من حصيلة افكاره ومايطرح في ظل معطيات ومناخات جمعها خلال دراسات ميدانية وكانت لديه زيارات الى البداوة مع طلابه لمعرفة الحقائق عن قرب لا بالوصف الخيالي والتخمن، وخلص بعد المقارنة الى هذه النتائج، كما اطلق على ظاهرة غريبة في تاريخ العراق الأجتماعي والتي اسماها بـ(ظاهر المد والجزر) والتي يرى فيها أن ظاهرة البداوة تستفحل ثم تضعف او تتقلص من وقت لأخر تبعا لظروف الدولة وماتتعرضه من ضعف وقوة، وكلما قويت الدولة كلما اتسعت الحضارة وقلة فجوة الصراعات الداخلية وتعم الحياة السياسية والأقتصادية والأحتماعية بالاستقرار، أن تحليل الطبيعة البشرية والصراعات الفكرية والثقافية مع البداوة وتحليل الازدواجيات للمجتمعات العربية والأهتمام بالجوانب الاجتماعية للواقع العراقي، اخذت من منظور ما ركز به الوردي على مصادر مادية مختلفة من ضعفاء الواقع وأرباب المهن البسيطة ولمختلف جوانبها، كما اخفى الكثير من افكاره وطروحاته تقية لشدة المواقف السياسة وظلم الحكام ولم يتحدث الا ماهو ضمن المعطيات المطروحة، ولو امد الله بعمر الوردي لهذا الانقلاب الجذري لكافة الامور في يومنا هذا لوضع نظرية جديدة اصلاحية بانت نتائجها واخفت مجادلاتها وخصوصا انه درس التاريخ الاجتماعي للعراق الحديث وكيفية النهوض بالبنية الاساسية، فيما تعرض الدكتور الوردي لكثير من النقد سوى في محاضراته او كتبه ولم يترك مجال الا ورد بأسلوبه العلمي والمقنع، وحين انتهائه من الجزء الاخير لكتابه لمحات اجتماعية تعرض لجملة من الانتقادات واتهمه الكثير من اصحاب العلم والدراية بأنه اصبح مؤرخا تاريخيا واهمل جانب علم الاجتماع فيما رد عليهم بما يلي : (مشكلة هولاء النقاد انهم لايفهمون علم الاجتماع فهما محدودا او مغلوظا من بعض الوجوه، ان الحقيقة التي اود ان يعرفها هولاء النقاد هي انه لايوجد فاصل حدي يفصل بين التاريخ والاجتماع فكلا الأمرين مترابطان او هما وجهان لشيء واحد) كان الدكتور علي الوردي قبل رحيله بشهور اجريت له مقابلة تلفزيونية من قبل قناة العراق الفضائية وسأله : المقدم ماهي الأخطاء التي ارتكبتها في حياتك ؟ فلم يظفر منه بجواب سوى ما ردده أن اخطأي كانت كثيرة، ثم حاول المقدم أن يجره للهجوم على ناقديه املآ للوصول الى جواب عن السؤال نفسه، الا انه لم يفلح منه بجواب فكان الوردي يحترم الرأي الآخر ويتقبل النقد، وقد قال الوردي في أخر عبارة في البرنامج نصا: (لا أدري كيف سأقابل ربي)، واخيرا ترى ماذا يكون حال العراق لو انتبهوا منذ أكثر من نصف قرن لطروحات ومناشدات الدكتور علي الوردي في مجال التصويت وحث الناس والحكام على تطبيق الديمقراطية .
***
صادق غانم الاسدي