قضايا
علي فضيل العربي: تحرير الحريّة
قد يبدو هذا العنوان غريبا أو مستفزا أو عبثيا، أو ليقل عنه القاريء ما شاء له عقله أن يقول، لكنّ منطق الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثيوقراطيّة المعاصرة، يفرض علينا إعادة النظر في هذا المكسب الإنساني والوجودي العظيم، ألا وهو الحريّة المسؤولة. لقد تحوّلت الحريّة في المجتمعات المتخلّفة، وعند الجماعات المتطرّفة فلسفيّا ودينيّا وأخلاقيّا وسياسيّا، إلى مصدر من مصادر الفوضى. فباسم الحريّة يتقاتل الإخوة، وباسمها يخرج الناس إلى الشوارع، فيحدثون دمارا وخرابا في الممتلكات العامة والخاصة. وباسم الحريّة يطالب بعض الأفراد أو الجماعات بحقوق لا محلّ لها من العقل السليم، بل هي ضرب من البلاهة والجنون والتطرّف المقيت، وباسم الحريّة يخرج علينا داروين بنظريّة التطور المريضة – التي دحضها العلم، ليقول للبشر أنّ أجدادكم الأوائل، كانوا قرودا، أيّ أنّكم – أيها البشر – أنتم من سلالة القرود المتطوّرة، وأنّ كل شيء في الطبيعة خاضع لذلك. وهي نظريّة في غاية اللؤم والبهتان والانحطاط العقلي.
ثم، يخرج علينا أناس مرضى سيكولوجيا، ويبشّرون الإنسانيّة بمجتمع الميم الشاذ، ويدافعون عنه في المنابر الخاصة والعامة، وتشرّع له بعض الحكومات مراسيم الاعتراف والقبول. وفي الأونة الأخيرة، طالعتنا وسائل التواصل الاجتماعي، بظاهرة، أقلّ ما يقال عنها، أنّها أغرب من الخيال. ولكنّها تنم عن أعمق أزمة روحيّة تمرّ بها الفلسفة الغربيّة الماديّة.
كانوا جماعة من الذكور والإناث. في بلد أوربي - كان ينتمي إلى المعسكر الاشتراكي، الشيوعي، قبل سقوط جدار برلين، وتفكّك الإتحاد السوفييتي - بلد اسمه رومانيا. كانوا في مظاهرة، وهي ينبحون، كما تنبح كلاب الحي في الغرباء، ويطالبون بالاعتراف بأنّهم كلاب. كانوا يطالبون بحقّهم (في إطار احترام مباديء الحريّة وحقوق الإنسان) باعتراف من حكومتهم، بأنّه كلاب وليسوا بشرا. ولكنّ الغريب في سلوكهم الإشهاري ذاك، هو خروجهم جماعة إلى الشارع، وكأن دولتهم منعتهم من (تكلّبهم وتكالبهم). وأنا عي يقين، أن لا أحد قد منعهم من ممارسة حريّة (التكلّب) تلك. لكنّ السؤال المطروح : ما الذي دفعهم إلى الرغبة في مغادرة عالم البشر والانتماء إلى (مملكة الكلاب) وانتحال الكلاب النباح بدل الكلام؟ أهو الفراغ الروحي أم هو اليأس والقنوط، من بني جنسهم (البشر)؟
لا أحد ينكر فضل الغرب على الشرق، والإنسانيّة جمعاء. فقد استطاع العلماء والفلاسفة والباحثين في شتى ميادين العلوم الرياضيّة والطبيعيّة والكونيّة عامة، توفير وسائل الرفاهيّة الحضاريّة اليوميّة للإنسان المعاصر ؛ الغذاء والدواء والسكن ووسائل النقّل والسفر والترحال السريعة ووسائل الاتّصال والتواصل الرقميّة ووسائل اللهو واللعب، وغيرها من المخترعات والمنتجات، التي يصعب عدّها كلّها في هذا المقال. وبالمقابل لا أحد يعفل أو يتغافل عن المخرجات السلبيّة لهذه للطفرة العلميّة والتكنولوجيّة، التي أضرت بحياة الإنسان ولوّثت الطبيعة العذراء، ودمّرت مساحات شاسعة منها وأدّت إلى انقرض أصناف شتى من النباتات، وتناقص رهيب في الثروة الحيوانيّة البريّة والبحريّة على السواء. وتسابق رهيب في إنتاج الأسلحة التقليديّة الفتّاكة والأسلحة غير التقليديّة المدمّرة ؛ النووية والكيماويّة والبيولوجيّة.
لقد وهبت المدنيّة الغربيّة، تحت إمرة الفلسفة الماديّة، الحياة والموت معا. أي أنّها إن شاءت أحيت، وإن شاءت أماتت. شأنها شأن الملك النمرود بن كنعان بن كوش، الذي تحدّاه سيّدنا إبراهيم الخيل عليه السلام في مناظرته المشهورة.
إنّ منظر أولئك المتظاهرين في رومانيا، وهم يقلّدون الكلاب في النباح، ويطالبون حق الاعتراف بأنّهم كلاب، هو – ببساطة – ما آلت إليه الأزمة الروحيّة في الغرب، جرّاء طغيان الفلسفة الماديّة المتطرّفة، والنظام الرأسمالي البراغماتي المتوحش، وهو مقدّمة لإفلاس الوازع الروحي، وانهيار نظام القيّم الأخلاقيّة، وغياب التربيّة الروحيّة، القائمة على الفطرة السليمة والعقل الراشد. أيعقل أن يبلغ ابن آدم - الذي كرّمه الله تعالى، وخلقه في أحسن تقويم - هذه الدرجة من الانحطاط الأخلاقي في بلد وقارة، سلطانها العلم والتكنولوجيا المتقدّمة؟ قد يلجأ الإنسان أو يضطر إلى تغيير جنسيته أو مكان إقامته أو أفكاره أو مذهبه السياسي أو إيديولوجيته أو ملّته، وووو. لكن أن يغيّر جنسه، فيطالب علنا، وفي الشارع، بأن يصبح كلبا نابحا وينخرط في مملكة الكلاب الأليفة والضالة، فهذا عين العجب، ومنتهى الانحطاط، ومؤشر خطير على المأزق العميق، الذي وقعت فيه الفلسفة الغربيّة المعاصرة، وهو ملمح – أيضا – من ملامح قرب نهاية العالم، وسقوط الحضارة المعاصرة، كما سقطت قبلها وانتهت – منذ مئات القرون – حضارات عريقة في بلاد الشرق؛ كالحضارة الفرعونيّة والبابليّة وحضارات ما قبل الطوفان.
وهكذا، تستمرّ الفلسفة الغربيّة – منذ قرون عدّة – في مفاجأة البشريّة. وتواصل تسفيه المساجد والكنائس والمعابد، وهدم القيّم الأخلاقيّة الساميّة، ومحاربة المنظومة الروحيّة، تحت مسمّى محاربة التطرّف والإرهاب. وما يشغل الإنسان المعاصر – حقّا - اليوم هو : إلى أيّ مدى تتجّه هذه الفلسفة الماديّة الغربيّة؟ أما آن لها أن ترعوي الآثام التي ارتكبتها وترتكبها – باستمرار - في حق الإنسانيّة؟ ومتى تتحرّر الحريّة من الفوضى والأنانيّة؟
***
بقلم : الروائي والناقد : علي فضيل العربي – الجزائر