قضايا
نقاشات بلا فائدة
لا أرى فرصة للنقاش المفيد بين المدافعين عن النسخة التقليدية من الدين وبين دعاة التنوير - الحداثة. ينتمي كلا الفريقين إلى نظام معرفي وقيمي مختلف تماماً عن الآخر. يتمثل دعاة التنوير روح العصر وفلسفته، وينفتحون على مصادر المعرفة فيه، بل ربما وضعها بعضهم في مرتبة مساوية لمرتبة الوحي، لأن العقل عندهم مصدر مستقل للقيم والتشريع. يعتقد هؤلاء أن المهمة الكبرى للإسلام المعاصر هي تقديم نموذج إيماني قادر على استيعاب حاجات الزمان وتحدياته، نموذج قابل للحوار والتفاهم مع التيارات الروحية والآيديولوجيات السائدة في عالم اليوم.
خلافاً لهذا فإنَّ الفريق التقليدي يرفض كلياً فكرة المساواة بين العقل والقرآن في التشريع وإنتاج القيم، ويعطي المكانة الثانية للسنة النبوية.
مكان العقل لديهم هو خدمة الكتاب والسنة، ليس موازياً لهما ولا مستقلاً عنهما. أما المهمة الكبرى للمجتمع الإسلامي المعاصر، فهي حماية أبنائه من تأثير الحضارة الغربية الغالبة. هذا المنظور الدفاعي انعكس على شريحة واسعة جداً من النتاج الفكري والفقهي لهذا الفريق، فبات ميالاً بشدة إلى التبرير والدفاع، بدل النقد الذاتي الضروري للتطور.
هذه المنطلقات تعني أن كلا الفريقين يفكر بطريقة مختلفة، ويتحدَّث بلغة لا يمكن للفريق الآخر أن يتقبَّلها لأنَّها تعارض ما يعده بديهة من بدهيات منهجه. الحقيقة أنَّ الطرفين لا يديران نقاشاً معمقاً في المبادئ الرئيسية والأرضية الفلسفية التي يقف عليها كل منهما، نقاش ربما أثمر عن تعديل في رؤيتهما العامة. تبدأ النقاشات دائماً في التفاصيل والفروع، وقد تصل إلى المبادئ العامة، لكنها في الغالب تواصل الدوران حول الفروع.تجري الأمور عادةً على النحو التالي: يطرح التنويريون - الحداثيون فكرة صادمة للعرف السائد.
رداً على هذا، يقدم المدافعون عن الموروث الديني مرافعاتٍ تعيد التذكير بأصول فكرتهم، وتنفي سلامة الاجتهادات المذكورة، كما تشكك في أهلية صاحب الفكرة للاستدلال والتوصل إلى أحكام أو حقائق شرعية.
لا تناقش هذه الردود أدلة التنويريين، بل تستعين بنفس الأدلة التي سبق استعمالها في دعم الرؤية الموروثة. لكن التنويريين يعرفون هذه الرؤية وقد رفضوها سلفاً. وهكذا نجد أنفسنا أمام الحالة التي تسمى أحياناً حوار الطرشان: كلا الطرفين يطرح أدلة يرفضها الآخر من حيث المبدأ، فلا يناقشها. فكأنَّ الطرفين يتحدثان في عالمين مختلفين، لا أحد منهما يسمع قول الآخر.الواقع أنَّنا نتحدث فعلاً عن عالمين فكريين متمايزين، لكل منهما أرضيته ومبرراته الفلسفية ومنطلقاته وفرضياته وأدوات نقده، وهو مختلف تماماً عن العالم الآخر. ولهذا لا توجد قاعدة معيارية واحدة أو ميزان علمي مشترك، يمكن الاعتماد عليه في الموازنة بين الرأيين أو أدلتهما. هذا يشبه المقارنة بين قصيدة عربية وأخرى إنجليزية... هل تراه ممكناً؟ بالطبع لا، لأنَّ القصيدتين تنتميان إلى عالمين مختلفين في الصور والتعبيرات والسياق، بحيث لا نستطيع القول إن هذه أفضل من تلك أو أجمل أو أصح.هل ينبغي أن نأسف لاستحالة إطلاق حوار يؤدي إلى توحيد التيارين، أو تقليل الخلافات بينهما؟
في رأيي إن الأمر لا يستدعي الأسف. من المفيد أن ننظر إلى الجانب الحسن في الجدالات الساخنة. إنَّ محاولة كلا الطرفين فرض رأيه، سوف تدفع الطرف الآخر إلى تقوية استدلالاته وتعميق الأفكار المطروحة للنقاش. لو سكت الجميع حفظاً لوحدة الموقف، فلن يستفيد أحد. المناقشة هي التي تولِّد رؤى جديدة، تعلِّم الناس وتوسِّع آفاق المعرفة.
***
توفيق السيف
كاتب ومفكر سعودي