قضايا
الشعر والفلسفة في القرن الواحد والعشرين
يُعتبر جون ديوي ابو البرجماتية الأمريكية والمؤلف والمفكر البارز في مجال التعليم وعلم النفس، كان ايضا يكن تقديرا عميقا للفنون وبالذات حبه الخاص للشعر. كتب ديوي بعض القصائد التي عُثر عليها بالنهاية بين أوراقه ونُشرت بعد عدة سنوات من وفاته. وجد ديوي (1859-1952) نفسه يعيش في زمن الاضطراب الكبير حيث التصنيع، النمو الاقتصادي، والتقدم العلمي. مع هذه المظاهر العديدة لتغيّر الحياة الحديثة بين يوم وآخر، لا غرابة لو سعى ديوي للعزاء في الشعر. يبدو بالنسبة لديوي ان كتابة الشعر ربما هي أكثر من كونها متنفس إبداعي عاطفي او هواية فنية. في الحقيقة، اعتقد ديوي ان الشعر يمكن ان يملأ الفراغ الروحي الذي حصل في الغرب بفعل الانحدار في الايمان الديني وتقاليد الماضي. هذه هي الفكرة التي طرحها ديوي في الكلمة الافتتاحية بمناسبة تخرج الطلبة في كلية سمث في ربيع عام 1890. بدأ ديوي كلامه بمقطع من دراسة الشعر لناقد الادب الانجليزي والشاعر ماثيو ارنولد Matthew Arnold: "ان مستقبل الشعر لا تحده حدود، لأن في الشعر، سيجد الانسان، ومع مرور الزمن بقاءً واثقا وأمينا. لا توجد عقيدة لاتتزعزع، ولا دوغما يقينية غير خاضعة للتساؤل، ولا تقاليد لا تتعرض للانحلال. الدين لدينا جسّد ذاته في الحقيقة، في الحقيقة المفترضة، انه ربط عواطفه بالحقيقة، والآن الحقيقة تثبت فشله. ولكن بالنسبة للشعر، الفكرة هي كل شيء، الباقي هو عالم الوهم، الوهم الديني. الشعر يربط عواطفه بالفكرة، الفكرة هي ان مزيد من البشرية سيكتشف اننا علينا ان نتحول للشعر لكي يفسر الحياة لنا، لتعزيتنا، للحفاظ علينا. بدون الشعر علومنا ستكون غير تامة، ومعظم ما يجري الان في الدين والفلسفة سيُستبدل بالشعر".
يرى ارنولد ان الشعر ذاته هو نقد للحياة:"نقد الحياة في ظل الشروط المحددة لمثل هذا النقد من خلال قوانين الحقيقة الشعرية وجمال الشعر. في مقاله الشهير(دراسة الشعر، عام 1888) يقول ان الشعر وحده يمكن ان يكون مصدر قوتنا وبقاءنا في عصر فقدت فيه الاديان قبضتها". هو يدّعي ان الشعر متفوق على الفلسفة، والعلوم والدين.
بالنسبة لديوي هذا اكثر من مجرد سؤال حول ما اذا كان مستقبل البشرية ينظرللفلسفة، العلوم، الثيولوجي، او الشعر للحصول على أجوبة للحياة. في الحقيقة، ديوي يخشى من ان الشعر سوف يفقد صدقيته، قوته الدائمة، لو امتنع عن المسائلة. يسأل ديوي"منْ يحفظ الحارس؟"، وجوابه هو الحقيقة (انظر الشعر والفلسفة، كلام ديوي في كلية سمث، ص110-112).
الرؤية الى عالم متغير
القوة الخارقة للشاعر هي القدرة على ملاحظة ما يلاحظه افراد آخرون لنفس العالم وتفسيره بطريقة ستكون هامة وجيدة للناس: "الشعراء لا يمكن ان يتحرروا من الظروف المرتبطة بذكاء الانسان في كل مكان"(نفس المصدر، ص113).
التمدد المستمر في المعرفة الانسانية يقلق ديوي في عالم الشعر، بمعنى ان التقدم السريع في تطبيقات العلوم يتطلب شعرا للتكيف معه. الفيزيائي والمنظر الامريكي ريتشارد فينمان Richard Feynman (1918-1988) قال مرة، "انه شاعر رديء من يصمت عند معرفة ان الشمس كرة ضخمة من الهايدروجين المندمج بغاز الهيليوم". هذا الاقتباس يتصل مباشرة بمخاوف ديوي. في الحقيقة، الشعراء لايستطيعون التحرر من ظروف فهم الانسان. بل، ان هذه الظروف تحرر الشاعر لينظر للعالم بالأصالة التي يدعو لها ديوي. ولكن وكما ألمح فاينمان، لا كشف علمي او فلسفي يستطيع ان يُضعف الحقيقة المعبّر عنها مثلا في قول والت وتمان walt whitman"إعطني الشمس الرائعة الصامتة"(1865):
حافظ على شمسك الرائعة الصامتة،
حافظ على غاباتك، والأماكن الهادئة بجانب الغابات،
حافظ على حقول البرسيم وحقول الذرة والبساتين،
حافظ على حقول الحنطة السوداء الرائعة وحيث همهمة النحل في الشهر التاسع،
اعطني وجوها وشوارع، اعطني هذه الارواح المستمرة بلا نهاية على طول الممرات الجانبية:
اعطني عيون لا متناهية، اعطني امرأة، اعطني رفاق ومحبين بالآلاف،
يلاحظ وتمان جمال الطبيعة و "الأماكن الهادئة بجانب الغابات"، ولكن هناك اضطراب فيه، وفي السطر الاخير من القصيدة نشهد تطور الثقافة. ان رفض القصيدة للاماكن الهادئة بجانب الغابات، وحقول البرسيم والقمح، يُبرز التحول الانساني من العثور على العزاء في جمال الطبيعة الى العثور عليه في حضور الآخرين. هذا التحول لوحظ بوضوح بعد الاحداث التي وقعت في بداية او خلال القرن العشرين – الحرب العالمية، المجاعة، التحطيم البيئي غير المسبوق في التاريخ.
عندما تتعرض الانسانية لتهديدات وجودية خلال القرن (ثلاثة اوبئة انفلونزا، حربان عالميتان، مجاعات متعددة، وقمع مميت) فمن الصعب الحصول على العزاء فقط بالمشي بين الغابات. في عصرالتقدم التكنلوجي الحالي نحن سوف نلتفت ايضا الى "رفاق ومحبين" بحثا عن عزاء عاطفي في ساعاتنا الحالكة بدلا من الطبيعة.
لكن اذا كان الشعر هو إقامتنا، كما يرى ديوي، فوفق أي سلطة يعزل وتمان الانسان عن الطبيعة؟ أي حقيقة هو يجدها في المرأة، في الوجوه، والشوارع؟ وهل لانزال نستطيع النظر الى هذه الأبيات بعد 150 سنة لتعزية أنفسنا؟
بالطبع، كلمات وتمن يتردد صداها اليوم كما في وقت كتابتها. بعد تمديد فترات الاحتجاز والحجر الاجتماعي اثر وباء كورونا، نحن لا نستطيع النظر بسهولة للعالم الطبيعي طلبا للمساعدة. الآن، اكثر من أي وقت مضى، نحتاج للارتباط الانساني والتجارب الاجتماعية. الحقيقة الواقعية التي يعرضها وتمن جرى التحقق منها عبر ظروف الانسان التي نمارسها اليوم، وهي لايبدو تفقد أي زخم. حتى في هذا العصر من الاتصالات السهلة والفورية، لانزال نجد أنفسنا نحب اللقاء وجه لوجه.
الذهب و فروست
اذا كانت الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة هي ما يُكتشف في السطور العميقة لولت وتمن. هل سنجد ذات الشيء عند استطلاع أبيات الشاعر روبرت فروست Robert Frost؟
قصيدة فروست "لا شيء يبقى ذهباً(1923) تتأمل باختصار في راهنية الحياة، ومرة اخرى نحن نحصل على مقارنة فعالة مع الطبيعة وجمالها:
زهرة أوراقها المبكرة،
لكن فقط لساعة.
الورقة تتضائل الى ورقة.
هكذا غرقت عدن في حزن
حتى ينزل الفجر الى نهار.
لا شيء من الذهب يمكن ان يبقى.
هذه الأبيات المختصرة حول لايقينية الحياة تذكّرنا مباشرة بمقطع من ماثو ارنولد: لا وجود لعقيدة لا تهتز، لا تقاليد لا تتحلل. تماما كما اقترح ديوي حول شعر ارنولد، قصيدة فروست ايضا تذكّرنا بالفلسفة الكبرى للرواقيين وكتابات ماركوس ارليوس. ولكن كما في ديوي لا يعني الافتراض ان ارنولد ترجم تأملات ارليوس الى قصيدة شعرية، ولا ندّعي ايضا ان فروست نسخ الفلسفة الرواقية الى اسطر ثمانية: بل ان التشابهات تبرز من نفس الحقيقة الملاحظة من جانب هؤلاء الكتاب. إلهام الرواقيين واضح في الكثير من أبيات فروست، مثل التحفظ (1936)، مجموعة من قصائد قصيرة حول أمد الحياة:
هل الآفة تقتل الكستناء؟
الفلاحون غير واثقين
انها تبقى تحترق ببطء في الجذور
وترسل نموا جديدا،
حتى طفيلي آخر.
يأتي لقتل الآفة.
انظر الاستعمال المستمر لفروست للمجاز والخيال الذي يدور حول الطبيعة. مع ذلك بينما الطبيعة فكرة ثقيلة يعتمد عليها فروست، لكنه مثل وتمن يبدو انه يجد الكثير من العزاء فيها. مرة اخرى نحن يجب ان نسأل أي حقيقة توجد في هذه السطور.
الادّعاء الذي يطرحه فروست في هذه الأبيات هو ما نلاحظه عموما في الحياة. كل شيء في نظام هو بالنهاية يتحول الى اضطراب – هذا هو قانون انتروبيا. الكستناء التي هي تحتمي مؤقتا من الآفة، سوف تذبل وتتعفن بالنهاية. هل فروست مهوس بالموت؟ او هل نستطيع العثور على العزاء في موتنا؟
كما في وتمن، نحن لا يجب علينا عمل جمناستك ذهي للتعاطف مع الحقائق التي يدّعي بها روبرت فروست في شعره. هذه الحقائق تجسد تجربة حياة الانسان، لم يردعه التقدم في المعرفة العلمية او الوحي الديني. نجد من السهل الاعتقاد ان فاينمان امتلك ابيات فروست في ذهنه عندما تحدث عن مهارات الشاعر.
الشعر للذهن الحديث
لذا نحن الان نجد أنفسنا في "جرح غير طبيعي"يتحدث عنه ديوي متمثلاً بالفجوة القائمة والمستمرة بين العلم والشعر، والتي هي ايضا تعني الانفصال بين الانسان والطبيعة. الانسان في العالم الذي نظر اليه ارنولد، قد تحرر من سلاسل الدين في بحثه عن مصدر جديد للعزاء والراحة وهو لم يتمكن من العثور عليه في ميادين العلم والفلسفة. ألا يذكرنا هذا بالعالم الذي نعيش به اليوم؟
التجارب، الاختبارات، الفرضيات، السجلات، والمراجعات – هذه أدوات العلماء. اذا كان العلماء يهتمون بالمعرفة، فان الفيلسوف يركز على الحكمة. وان المنطق، الاستجواب، والمناقشة هي ادوات الفلسفة. لكن وسيلة الشاعر هي الشعور الملاحظ والتجربة المعاشة عندما يركز على الحقيقة.
الشاعر بالتأكيد، غير متحرر من إثباتات العلم، ولا من استجواب الفيلسوف. في الحقيقة، اذا كانت أبيات الشاعر لا تبقى منسجمة مع هذه القوى، فسوف لن توجد حقيقة فيها. لكن في كل من اشعار وتمان و فروست نحن لا نجد عدم الدقة العلمية او المغالطات الفلسفية. مع ذلك، نحن حقا نجد البقاء والعزاء الذي تنبأ به ارنولد في الشعر، والذي قال ديوي اننا نحتاجه جدا.
اذا كنا نبحث في الشعر عن عزاء للحقائق الباردة التي يمنحها لنا العلم والحكمة الصلبة التي تفسرها لنا الفلسفة – فانها بالتأكيد توجد في قصائد وتمان وفروست. اذا كان العلم يعطينا الحقائق، والفلسفة تكافح لأجل الحكمة، عندئذ فان الشعر يعطينا الحقيقة الوجودية. مرة اخرى، الافكار التي يتم إبلاغها بالقصائد تجد سلطاتها في حقائق التجارب القابلة للتصديق التي يتم تقاسمها جماعيا بين الناس. وبالرغم من ان الحقائق المعطاة لنا من جانب فروست، وتمان، وشعراء اخرون لم تُكتشف حديثا، فهي تُعطى بطريقة تتصل بتجاربنا. عندما يُعاد تفسير هذه الافكار من جانب شعراء أكثر مهارة، فان الحقائق المنقولة عبر هذه القصائد سوف لن تخفت.
الشعر للذهن العالمي
لكي يكون الشعر مقبولا كحقيقة، خاصة في ظل ارشادات ديوي، فان الكلمات يجب ان تعكس التجربة الشائعة للانسانية. هذه التجربة المشتركة ستكون مجموعة من الحوافز الثقافية والبيئية لا يشترك بها فقط مجتمع معين او جماعة معينة وانما كل العالم، وهي تستمر عبر الزمن. هنا "التجربة الشائعة" تختلف عن التقاليد الثقافية والطقوس الجماعية في كون الأخيرة أقل شيوعا ويتم تقاسمها فقط من جانب الافراد في جماعة معينة. ونحن نلاحظ انه في عصر التواصل الاجتماعي، تكون الاختلافات بين جماعات متميزة هي بنفس درجة الوضوح في التشابهات بينها.
بالرغم من الاختلافات فان الشاعر يجب ان يرتقي برؤيته لكي يستطيع ربط تجربته بالافراد عبر الثقافات والأزمان، لكي لا تكون قصيدته فقط استجواب لما هو مختبئ في العالم. بكلمة اخرى، الشعر الجيد يبقى صحيحا لجميع الافراد المتميزين بالفهم بصرف النظر عن خلفياتهم او تربيتهم الثقافية. هذا بالضبط يفسر لماذا لانزال ندرس ونقرأ ونتمتع بشكسبير ودون ودانتي. الحياة اليومية لدانتي ستكون مختلفة جدا عن حياتك او حياتي، وان المعرفة المتوفرة له محدودة جدا بالمقارنة، ذلك يعني من الصعب تصوّر انه يستطيع كتابة أي شيء لايزال يستحق الدراسة بعد ثمانية قرون. لكن دراسة ذلك هو بالضبط ما نجد أنفسنا نقوم به. والحقائق التي يكتبها فروست ووتمن هي نفس الحقائق التي كانت متوفرة لوليم شكسبير وجون دون John Donne.
البقاء مع الشعر
في الختام، ربما ينظر احد مجددا لكلام ديوي ليجد انه يتنبأ بانه مع التقدم المتسارع في المعرفة العلمية، فان الانقسام بين الانسان والطبيعة سوف يستمر بالاتساع. هو يقترح انه بالرغم من ان هذا الصدع سيضخّم الاديان والتقاليد، لكننا يجب علينا الالتفات الى الشعر لردم الهوة. يقترح البعض ان نُبقي في الذهن فكرة ديفد هيوم بان احدا لايستطيع الحصول على ما ينبغي ان يكون مما هو كائن: اي ان احدا لا يستطيع النظر الى الطريقة التي يبدو بها العالم ويقرر من تلك المشاهدات الطريقة التي يجب ان تكون. الشعراء العظام الذين يشير لهم ديوي ربما لاحظوا هذا الانقسام ولكن كما نرى من وتمن وفروست، ان هذا الانقسام شجع الانسان ليكوّن روابط أقوى مع رفاقه ومحبيه، والنظر باعجاب وتقدير للطبيعة.
من جهة اخرى، يمكن القبول بان البشرية حقا يجب ان تنظر الى الشعراء لتفسير المعرفة والحكمة التي تجلبها لنا الفلسفة والعلوم. ان الاختلاف بين تلك الحقائق والحقائق المفسرة بواسطة الشعر ليست الاّ اختلافات في اللغة. الشعر يستطيع الناس فهمه والوصول اليه بسرعة اكبر. طالما هذه هي الحالة، فان الشاعر هو المهندس في مهمة ردم الفجوة بين العلم والفلسفة من جهة والانسانية من جهة اخرى. العلم ليس الا مجرد وسيلة لفهم كيفية عمل العالم، الفلسفة ليست الا وسيلة للخطاب لفهم كيف نكتسب المعرفة، لكن الشعر هو طريقة لتفسير فهمنا للبشرية. في الحقيقة، نحن سنجد في الشعر بقاءً واثقا وأميناً.
***
حاتم حميد محسن
........................
Poetry and philosophy for the 21st century, philosophy Now Dec/Jan 2023