آراء
رشيد الخيّون: تمثيل التَّاريخ.. العقاد ليس مؤرخاً
كتبتُ أكثر مِن مقال عن تمثيل التاريخ، وكتابته أدباً، مما يفرض على كاتب السيناريو أو مؤلف العمل الأدبيّ، التشويق لجذب المشاهدين والقراء، وهذا ليس عملاً مرفوضاً في السينما والأدب، لكن لا يصلح مصدراً يُحتج به، فهناك أمهات التَّاريخ والمؤلفات فيه، وهي مِن الكثرة قد لا تُعد ولا تحصى، وليس كلّ ما جاء فيها صحيحاً، وتبقى أمانة المؤرخ أو المؤلف في التَّاريخ المقابلة بين الروايات لترجيح واحدة منها، بعد مقابلتها، وهذا ما فعله محمّد بن جرير الطَّبريّ (310 هـ)، يأتي بالروايات مِن عدة رواة ومظان. كان لهذا المقال سبب، ليس الرغبة في الإعادة والتَّذكير، إنما للردود التي تناولته، أحدها كان مقال «سَيْف ذو الفَقَار.. هدايا ونُصب»، بعد أنَّ صار هذا السَّيف مادة للحديث والمناقشة، عندما قُدم هدية لوزير الدِّفاع الأميركي رامسفيلد، وبصورته، التي تخالف ما جاء عند المؤرخين سُنَّة وشيعة.
جاء ذِكر هذا السّيف، في كتب التَّاريخ كافة، كان غنيمة مِن معركة «بدر» (2هـ)، فصار للنبي، ثم أهدي للإمام عليٍّ بن أبي طالب، وظل يتداول بين أجيال العلويين، امتلكه حفيد الحسن بن عليٍّ محمَّد النَّفس الزَّكية (145هـ)، ثم استأثر به الخلفاء العباسيون، ونعثر على آخر أخباره عند هارون الرَّشيد (193هـ) (الطَّبري، تاريخ الرّسل والملوك)، بعدها غاب ذكره تماماً، ليظهر مرسوماً برأسين أو شفرتين.
أما محمَّد باقر المجلسيّ (1111هـ)، فقال انتهى السّيف عند المهدي المنتظر، ولم يزد في وصفه بأكثر مما رواه الطبريّ وبقية المؤرخين، سمي بذي الفقار لفقرات فيه لا شفرتان (بحار الأنوار).
فصورةَ السَّيف المنتشرة في تماثيل ومصورات ومداليات، تُخالف الوصف الذي اِتَّفق عليه المؤرخون الأوائل، فقد كان محلى بثماني عشرة فقرة، ولم يتحدث أحدٌ عن شفرتين في طرفه، ومعلوم أنَّ النزاعات الطّائفيّة استغلت ورتبت وقائع وأحداثاً فيها الغلو والتَّطرف، ليظهر رأس «ذو الفقار» بخنجر أبي لؤلؤة (قُتل 23هـ)، ليظهر عمر بن الخطاب مقتولاً بسيف عليّ! كان هذا العمل (المحترف) مِن قِبل أسرة ادعت أنها تنتسب إلى أبي لؤلؤة، فجعلوا له مزاراً، وسموه «بابا شِجاع الدِّين»، حتّى ألغي مِن قِبل السلطات الإيرانيَّة بعد الثَّورة.
غير أنَّ الغاضبين على ما كتبته، ظنوا أن المقال يلغي وجود «سيف ذي الفقار»، وعلاقته بعلي، فاحتجوا بمخرج فيلم الرّسالة مصطفى العقاد، فقد أظهر السيف، الذي بيد عليّ بشفرتين، فكيف يكون مزوراً برأسي خنجر أبي لؤلؤة؟
وبالعبارة ذكر أكثر مِن واحد: «هل أنت تعلم في التاريخ أكثر مِن العقاد»؟ نعم، فالعقاد ليس مؤرخاً لا باحثاً يهمه تحقيق الرواية، ومقابلتها، بقدر ما يهمه عمله الفني، وقد أسهم في تداول الخطأ، وقيل «خطأ شائع خير مِن صواب ضائع». فلو اطلع على الرواية التّاريخيَّة، وترك عنصر التشويق، لأظهر «ذو الفقار» بفقراته التي على ظهره، وأخذ منها الاسم، لا بشفرتي «خنجر أبي لؤلؤة»، ولطابق النص مع رواية التاريخ المعتمدة، التي جاءت في معركة أُحد (3هـ)، وما قيل وقتها: «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي» (ابن هشام، السيرة)، وهناك مَن يعتبرها رواية موضوعة، لكنها كانت معركة حاسمة، خسر فيها المسلمون، ولا يستبعد مثل هذا النداء لإثارة الحماس.
ما يعنينا مِن هذا التصويب، ما قصد إليه مَن ألبس رسمة سيف عليّ رسمة خنجر قاتل عمر، وكم كان مِن الحذاقة في إشاعة هذا الوهم، فتراه أعاد كتابة التَّاريخ، ليحقق مقولة «خطأ شائع خير مِن صواب ضائع»، حتَّى صار الخطأ الضار جداً، يتداول هدايا وأوسمة، وهنا أقر أنّ العقاد غلبني، فهو أخذ بالخطأ الشائع، وأنا أخذتُ بالصواب الضائع أو المهجور.
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي






