آراء

مصطفى غلمان: عصر ما بعد الخصوصية

السيادة الخوارزمية وانزياحات الأمن السيبراني

على هامش اتفاقية هانوي للأمن السيبراني

"الرأسمالية المراقِبة لا تبيع المنتجات فحسب، بل تبيع تنبؤات عن سلوكنا المستقبلي."ـ شوشانا زوبوف: ـ من "عصر رأسمالية المراقبة"

"السلطة في مجتمع الشبكات تُمارس من خلال تدفق المعلومات، ومن يُتحكم في التدفق يملك زمام العالم." مانويل كاستيلز: ـ من "مجتمع الشبكة"

لم يكن اجتماع أكثر من ستين دولة في هانوي (يوم السبت 25 أكتوبر 2025)، لتوقيع أول معاهدة أممية ضد الجرائم الإلكترونية مجرد إجراء قانوني، بل إعلانًا رمزيًا عن انتقال السلطة من المؤسسات إلى الخوارزميات، ومن السيادة السياسية إلى السيادة الرقمية  .ففي الوقت الذي تُرفع فيه شعارات التعاون ضد "الجريمة الرقمية"، تُطرح في العمق أسئلة أخلاقية وسياسية مقلقة: من يعرّف الجريمة؟ ومن يملك حق مراقبة العالم الافتراضي باسم الحماية؟

تبدو المعاهدة في ظاهرها، دعوة إلى توحيد الجهود ضد الانتهاكات الرقمية المتنامية. لكنها، في جوهرها، تكشف انزياح الأمن السيبراني عن أهدافه الأصلية من حماية الإنسان إلى إدارة سلوكه، ومن صون الخصوصية إلى تطويعها ضمن منظومات السيطرة الرقمية.

لقد غدت "الخصوصية" ترفًا فلسفيًا أكثر منها حقًا قانونيًا، بعدما تحولت الخوارزميات إلى أجهزة تفكيرٍ مستقلة تعرف عنا كل شيء، وتعيد بناء ذواتنا على صورة ما تراه مناسبًا للسوق أو للسلطة.

لقد تحوّل مبدأ القوة في العصر الرقمي من منطق التملك المادي إلى منطق التحكم المعرفي؛ فالقوة اليوم تُقاس بمستوى السيطرة على تدفق المعلومات وتحليلها. ولهذا، صارت الشركات التكنولوجية العملاقة، مثل "ميتا" و"غوغل" و"أمازون"، فاعلين سياديين جدداً يمارسون سلطتهم من خلال أنظمتهم الخوارزمية، لا من خلال حدود الدول التقليدية.

المعاهدة الأممية، في هذا السياق، تبدو محاولة لتنظيم هذا العالم الفوضوي، لكنها في الوقت نفسه تكرّس منطق المراقبة المركزية، إذ تتيح للدول جمع البيانات وتبادلها تحت مظلة "التعاون الأمني الدول".

إنها سلطة جديدة لا يُمارسها الحاكم، بل النظام الرقمي نفسه. سلطة لا تراها العين، لكنها تراقبك في كل حركة، تُعيد تشكيل وعيك عبر الإعلانات والمحتوى والخطاب العام.

هكذا يُعاد إنتاج مفهوم السيادة في بعده الرقمي: لم تعد سيادة الدولة على الأرض، بل سيادة الخوارزمية على الإدراك.

السؤال المحوري الراهني الذي يطرح نفسه بإلحاح، هو أين نحن كشعوب لا تملك بنية تكنولوجية مستقلة من هذا الأمن السيبراني الذي يُدار من خارجنا؟

الحقيقة المؤلمة أن الأمن الرقمي لم يعد مسألة دفاعية، بل بنية هيمنة. فالدول الضعيفة التي لا تمتلك أدوات الذكاء الاصطناعي، ولا تملك سيادة على بياناتها، تصبح مستعمَرة سيبرانية تُراقَب وتُحلَّل وتُوجَّه دون أن تشعر. أما البيانات الوطنية فتُخزَّن في مراكز خارج حدودها، والمواطن يُعرَّف رقمياً من قبل منصات أجنبية، والوعي الجمعي يُعاد تشكيله بخوارزميات لم تُصمَّم من أجله.

ومن هذا المنظور، يصبح الأمن السيبراني وجهًا ناعمًا للاستعمار الجديد. استعمار لا يحتاج إلى جيوش، بل إلى أنظمة ذكاء قادرة على إدارة الإدراك الجماعي وتحديد أولويات التفكير.

لقد تحوّل الإنسان في العالم الثالث إلى كائن مكشوف تمامًا، بلا خصوصية ولا سيادة على ذاته الرقمية، يعيش في فضاء يراه، لكنه لا يملك مفاتيحه.

إن عصر ما بعد الخصوصية هو لحظة انكسار في الوعي الإنساني. فبينما يتوهم الفرد أنه أكثر حرية في فضاء مفتوح، يصبح في الحقيقة أكثر خضوعًا لنظام شفاف يراه من كل الجهات.

إن ما يسميه الغرب "الأمن السيبراني" ليس بريئًا من النزعة الإيديولوجية التي تُغلفه، فهو يمارس "الأمن" كوسيلة لإنتاج النموذج الثقافي المهيمن، لا لحماية الإنسان من الخطر. إنها هيمنة ناعمة، لكنها كلية، تتسلل عبر الشاشات، وتستعمر المخيلة، وتُعيد تعريف مفاهيم الأمن والحرية والحقيقة.

وفي ظل هذا المشهد، يغدو الدفاع عن الحق في الغموض والحق في النسيان ضربًا من المقاومة الوجودية ضد منطق الشفافية المطلقة.

إن المعاهدة الأممية ضد الجرائم الإلكترونية قد تكون "بداية"، كما قال غوتيريش، لكنها بداية لسؤالٍ أخلاقي جديد: هل سيبقى الإنسان مركز العالم، أم سيغدو مجرد معطى في معادلة رقمية كبرى؟

إن الشعوب الضعيفة مدعوة اليوم إلى استعادة سيادتها الرقمية، لا عبر الدفاع عن الخصوصية فحسب، بل عبر إنتاج فكر تكنولوجي مستقل، يربط بين الأخلاق والعلم، بين المعرفة والكرامة. فالأمن الحقيقي لا يتحقق بالمراقبة، بل بإعادة بناء الثقة بين الإنسان والتقنية.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

في المثقف اليوم