آراء
رمضان بن رمضان: هل مازال الغرب اليوم مؤتمنا على القيم الإنسانية؟
في تداعيات عملية "طوفان الأقصى"
منذ أن نعت دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي السابق في إدارة بوش الإبن ثم دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق، أوروبا ب" القارة العجوز " وهما يقصدان عدم قدرتها على الدفاع عن نفسها وعلى حاجتها إلى أمريكا في ذلك، فإن العجز والشيخوخة تخطيا الجانب العسكري – الإستراتيجي للغرب في كليته ( أوروبا وأمريكا) ولامس الأصول القيمية التي إنبنت عليها الحضارة الغربية والتي هيمنت بها على العالم وجعلت منها نموذجا قابلا للإحتذاء والترويج. فيما يعرف بالمركزية الأوروبية euro-centrisme وهو ما أعطى للخلفية العقائدية لهذه الحضور اليهو-مسيحية Judéo-christianisme التفوق الديني الذي تقاسمته الدولة – الوطنية Etat-nation في الغرب. جاءت عملية " طوفان الأقصى " في السابع من أكتوبر 2023 لتعري زيفا تاريخيا إمتد لقرون ولتكشف قيما كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. لقد ترهلت تلك المبادئ ثم تكلست حتى أضحت أقرب للشوفينية منها إلى أي شيء آخر. يحتكرها الرجل الأبيض لنفسه دون سواه وهي في قناعة أصحابها ولاسيما أصحاب القرار منهم وبعض " مثقفيهم " تملكا مرضيا خالصا لهم ، رغم أن التاريخ الإنساني يشهد أن ما بلغته الحضارة الغربية إنما هو إرث بشري ساهمت فيه حضارات متعددة ومسارات تاريخية متنوعة منذ ظهور الإنسان على وجه البسيطة .( آنظر رضوان السيد ، الغرب : الصورة والهوية الحضارية وتداعيات الحرب، صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ، بتاريخ يوم الجمعة 01 جمادى الآخر 1445 هج/ 15 ديسمبر 2023 ) . لقد كانت عملية طوفان الأقصى بكل تداعياتها نوعا من أوجاع الإفاقة على التاريخ العاصف على حد عبارة أستاذنا توفيق بكار رحمه الله ، إنها وهي تفعل فعلها في الواقع / الحاضر تتوالى إرتداداتها لتعيد طرح إستفهام كبير حول ما راكمه الموروث الإنساني من مفاهيم وتصورات ؟ هل هناك مفهوم واحد لل" إنسان " أم هنا إنسانات بصيغة الجمع !!؟؟ . لقد فضحت طوفان الأقصى المفاهيم والنظريات الخلابة والمخاتلة حول الإنسان وحول قيم الحق والعدل وكشفت زيفها ودعت نخبنا الذين أصبحوا سدنة لتلك المنظومة وحراسا لمعابدها أن يراجعوا أنفسهم. لنتذكر ما حصل مع المفكر محمد أركون (1928 – 2010) عندما أثبت في أطروحة الدكتوراه " الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري، مسكويه مؤرخا وفيلسوفا " أن العرب والمسلمين قد عرفوا النزعة الإنسانية منذ القرن الرابع الهجري/ العاشر ميلادي وحتى قبله مع الجاحظ ثم مع التوحيدي ومسكويه أي إنهم تحدثوا عن الإنسان في معناه المطلق بقطع النظر عن دينه وعرقه وجنسه، ثارت ثائرة المستشرقين وإحتجوا على ذلك بدعوى أن الإنسية l'Humanisme هي مفهوم غربي محض (أنظر مقالنا: " المثقف العربي والمركزية الأوروبية: محمد أركون وإدوارد سعيد نموذجين، صحيفة المثقف، 06 كانون الأول/ ديسمبر 2023 ) يقول أركون: " يبدو طبيعيا الحديث عن إنسية إسلامية un humanisme musulman وتحديدا في نطاق الفلاسفة ومن حذا حذوها من أصحاب العقول الحرة الذين فوضوا للعقل الإنساني مهمة رسم المراحل العقلية المؤدية إلى هذه الحقائق الكبرى المعروضة على عقيدتنا من قبل الوحي، مثلما هو الأمر في كل الإنسيات كما حددها الغرب – الإنسان هو مركز كل البحوث الفلسفية والعلمية ، نتساءل حول مصيره وأصوله ومكانته في الكون ووضعه البيولوجي والروحي وسلوكه المطابق لنزوعه الإنساني نريد من خلال هذه الدراسة بيان إنتصار هذه النزعة في القرن الرابع الهجري/ العاشر ميلاديا. " ( آنظر محمد أركون " الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي من خلال كتاب " الهوامل والشوامل " لأبي حيان التوحيدي ومسكويه " ضمن كتاب محمد أركون Essais sur la pensée islamique, ed Gallimard, Paris ,1977 pp 87-100 ترجمة رمضان بن رمضان ،مجلة الحياة الثقافية تونس العدد 234 / أكتوبر 2012 ،ص33) حين يقدم الكيان الصهيونى نفسه بآعتباره قاعدة متقدمة حاميا لقيم الحضارة الغربية في وجه البربرية والظلامية وهو يرتكب حرب إبادة يقصف البيوت والمربعات السكنية والمستشفيات والمدارس ويدمرها على رؤوس أصحابها ويقتل النساء والأطفال في ظل دعم لا محدود من قبل أنظمة غربية ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية التي هي الداعم الأساسي للكيان الغاصب ، هذا من شأنه أن يعري الغرب أمام شعوبه فهؤلاء الذين وصفوا حركة حماس ومن ورائها الشعب الفلسطيني بالوحوش الآدمية فهل هؤلاء هم كذلك لأنهم يخوضون حرب تحرير تبررها كل شرائع الأرض والسماء ، هل لأنهم يريدون حياة كريمة في ظل دولة حرة مستقلة ، هل لأنهم يرغبون في إسترجاع حقوقهم المسلوبة أرضهم ومقدساتهم منذ ما يزيد عن سبعة عقود يصبحون وحوشا آدمية ! لقد كذبت المقاومة الفلسطينية ممثلة خاصة في حركة حماس كل تلك الإفتراءات وأثبتت تشبعها بقيم الدين الإسلامي الحنيف وهي في جوهرها قيم إنسانية ، تجلت في تعاملها مع الأسرى والمخطوفين في الوقت الذي كان الأسرى - النساء والأطفال - من الفلسطينيين يلقون سوء المعاملة ويمنع أهاليهم من إظهار الفرح بتحريرهم وقد تداولت مختلف وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي مما أصاب السردية الإسرائلية في مقتل، لقد كان لذلك السلوك الذي أتته المقاومة أثره في الرأي العام الدولي ولاسيما شعوب البلدان الغربية التي أدركت أن الرواية الإسرائيلية حول فلسطين وحول شعبها " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض " وهو ما كانت تروج له الصهيونية، رواية كاذبة ، زائفة لطالما لوثت الفكر الأوروبي الذي بدأ يتعافى من أدران الإعلام المتصهين ولوبياته التي ظلت لعقود تمارس الوصاية على الشعوب وعلى ثقافاتها.
إن عملية طوفان الأقصى هي في جوهرها حركة تحرير وطني ومن تداعياتها أنها حركة تحرر لنا ولشعوب الأرض قاطبة من صهينة الوعي القائم على لوبيات المال والإعلام التي عملت على تزييف الفهم وأتاحت للشعوب العربية والإسلامية إمكانية الإستئناف الحضاري للأمة من جديد والمساهمة مع أحرار العالم - الذين يقفون اليوم مع الحق الفلسطيني وفي وجه الغطرسة الصهيونية والأمريكية - في بناء منظومة قيم تقوم على الحق والعدل والمساواة والحرية.
***
بقلم رمضان بن رمضان : باحث في الحضارة العربية الإسلامية