آراء

خليل الحمداني: العراق في مجلس حقوق الإنسان

بين بريق الأرقام وقتامة الواقع.. عندما تصبح العضوية المضمونة امتحاناً للضمير

مقدمة: مرآة مزدوجة الوجوه

في قاعات الأمم المتحدة المهيبة بجنيف، حيث تتردد أصداء خطابات عن العدالة والكرامة الإنسانية، يستعد العراق لشغل مقعد جديد في مجلس حقوق الإنسان لعام 2025. أربعة مرشحين لأربعة مقاعد في المجموعة الآسيوية-المحيط الهادئ، معادلة رياضية بسيطة تخفي خلفها تعقيدات سياسية وأخلاقية عميقة.

العراق، الذي يتصدر قائمة المرشحين بـ16.6 نقطة، يقف أمام مرآة مزدوجة الوجوه: في إحداها صورة مشرقة من التقارير والإحصائيات والمعاهدات الموقعة، وفي الأخرى واقع قاتم من الانتهاكات والتعذيب والإفلات من العقاب. فأي من هذين الوجهين يمثل العراق الحقيقي؟ وهل يمكن للأرقام أن تغطي جراح الواقع؟

الفصل الأول: عندما تتألق الأرقام في سماء جنيف

التفوق الورقي المثير للإعجاب

على صعيد المؤشرات الشكلية، يبدو العراق كـ"الطالب المتفوق" في أروقة الأمم المتحدة. بنقاطه الـ16.6، يتفوق بوضوح على منافسيه: فيتنام (10.6)، باكستان (7.4)، والهند (5.4). هذا التقدم ليس وليد الصدفة، بل نتيجة التزام ظاهري دقيق بالمعايير الدولية.

ثمانية معاهدات أساسية صادق عليها العراق، رقم يضعه في المقدمة بين المرشحين. من اتفاقية مناهضة التعذيب إلى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، تشكل هذه المعاهدات خارطة طريق نظرية لحماية حقوق الإنسان. لكن المسافة بين النص والتطبيق تبقى شاسعة كالمسافة بين جنيف وبغداد.

التقارير في موعدها، والعراق هنا يظهر انضباطاً لافتاً. فبينما تتأخر دول كثيرة في تقديم تقاريرها إلى هيئات المعاهدات، يحرص العراق على إنجاز "واجباته المدرسية" في الموعد المحدد، كأنه طالب يخشى عقاب المعلم.

الدعوة الدائمة للمقررين الخاصين تمثل نقطة إضافية في سجل العراق. 53% من الزيارات المطلوبة تمت بالفعل، رقم يبدو متواضعاً لكنه يتفوق على باكستان (17%) والهند (32%). هذه الدعوة تعكس، على الأقل نظرياً، استعداداً للشفافية والمساءلة.

الحضور الوزاري في جلسات الاستعراض الدوري الشامل يضيف بعداً سياسياً مهماً. عندما يرسل العراق وزراءه إلى جنيف، فهو يرسل رسالة واضحة: نحن نأخذ هذه العملية على محمل الجد. لكن السؤال يبقى: هل هذا اهتمام حقيقي أم مجرد دبلوماسية شكلية؟

الدبلوماسية الحذرة في العمل

سجل العراق التصويتي في المجلس في فترة عضويته السابقة يكشف عن استراتيجية محسوبة بدقة. لم يكن عضواً صامتاً، لكنه لم يكن جريئاً أيضاً. صوّت ضد قرارات تخص سوريا وإيران، في انحياز واضح للاعتبارات الإقليمية على حساب المبادئ الحقوقية. امتنع عن التصويت في ملفات جورجيا وأوكرانيا، متجنباً الوقوع في فخ الاستقطاب الدولي.

لكنه في المقابل، التزم بالتوافق العام في القضايا "الآمنة": حقوق المرأة، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بناء القدرات. هذا السلوك يرسم صورة عراق يحاول السير على حبل مشدود، يوازن بين ضغوط إقليمية ومسؤوليات دولية، بين مصالح سياسية ومبادئ أخلاقية.

الفصل الثاني: عندما يتكسر البريق على صخور الواقع

الثغرات الصارخة في السجل

لكن هذا البريق الدبلوماسي سرعان ما يخفت عندما ننتقل من قاعات جنيف إلى شوارع بغداد والبصرة والموصل. فالعراق الذي يلمع في التقارير يتعثر مؤلماً على أرض الواقع.

غياب المساهمات الطوعية للمفوضية السامية لحقوق الإنسان يكشف عن محدودية الالتزام العملي. الشراكة الحقيقية لا تقتصر على الكلام والتوقيع على الوثائق، بل تتطلب دعماً مالياً وعملياً للمنظومة الأممية. هنا يظهر العراق وكأن التزامه يتوقف عند حدود المجاملات الدبلوماسية.

عدم التصديق على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب يمثل تناقضاً صارخاً. كيف لبلد يدّعي الالتزام بحقوق الإنسان أن يرفض آلية دولية لمنع التعذيب؟ خاصة وأن تقارير التعذيب في السجون العراقية تتكرر كالكابوس المتجدد.

الإدراج في تقارير الأمين العام حول الأعمال الانتقامية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان يضع العراق في موقف محرج. والأمر الأكثر إحراجاً هو الصمت الرسمي تجاه هذه التقارير، صمت يبدو وكأنه اعتراف ضمني بالتهم الموجهة.

واقع الانتهاكات المرير

خلف أرقام التقارير الوردية، يختبئ واقع مرير من الانتهاكات اليومية. التعذيب الممنهج في السجون، قمع الاحتجاجات السلمية، اغتيال الناشطين، ضعف القضاء واستمرار الإفلات من العقاب. هذه ليست مجرد إحصائيات، بل قصص إنسانية مؤلمة تتكرر يومياً في زوايا مظلمة من البلاد.

المدافعون عن حقوق الإنسان يواجهون تهديدات مستمرة، والصحفيون يعملون تحت سيف الخوف، والمحتجون السلميون يُقابلون بالرصاص أحياناً. هذا التناقض بين الخطاب الرسمي والممارسة العملية يجعل من العضوية المرتقبة في المجلس سؤالاً أخلاقياً معقداً.

الفصل الثالث: المعضلة الجيوسياسية - عندما تغلب السياسة على المبدأ

انتخابات بلا منافسة حقيقية

المفارقة في انتخابات 2025 أنها محسومة سلفاً: أربعة مرشحين لأربعة مقاعد. هذا الواقع يكشف عن طبيعة مجلس حقوق الإنسان كمنتدى للتوازنات الجيوسياسية أكثر من كونه محكمة أخلاقية صارمة. التوزيع الجغرافي للمقاعد يعطي الأولوية للتمثيل الإقليمي على الجودة الحقوقية، ما يفتح الباب أمام دول ذات سجلات مشكوك فيها للحصول على مقاعد مؤثرة.

هذا النظام يُظهر التناقض الأساسي في بنية المنظومة الدولية: كيف يمكن لآلية تهدف إلى حماية حقوق الإنسان أن تقبل بعضوية دول تنتهك هذه الحقوق؟ العراق ليس استثناءً هنا، بل مثال على معضلة أوسع تواجه المجتمع الدولي.

التوازنات الإقليمية والحسابات السياسية

العراق، في موقعه الجيوسياسي الحساس، يجد نفسه في قلب تجاذبات إقليمية ودولية معقدة. علاقاته المتشابكة مع إيران وتركيا والسعودية والولايات المتحدة تجعل من مواقفه الحقوقية رهينة لحسابات سياسية أكبر. هذا الواقع يفسر التردد والحذر في سجله التصويتي، لكنه لا يبرره أخلاقياً.

المنطقة العربية والآسيوية تحتاج إلى أصوات شجاعة في مجلس حقوق الإنسان، أصوات تقف مع الحق حتى لو تعارض مع المصالح السياسية قصيرة المدى. هل يمكن للعراق أن يكون هذا الصوت؟

الفصل الرابع: الفرصة التاريخية - تحويل المقعد إلى منصة إصلاح

الإصلاحات الداخلية المطلوبة

العضوية في مجلس حقوق الإنسان يجب أن تكون بداية، لا نهاية. فرصة للإصلاح الداخلي، لا مجرد لقب دبلوماسي. العراق أمامه خيارات واضحة لتحويل هذا المقعد إلى رافعة إصلاح حقيقية.

التصديق على البروتوكول الاختياري لمناهضة التعذيب وإنشاء آلية وقائية وطنية مستقلة خطوة أساسية لا يمكن تأجيلها. هذه الآلية يجب أن تتمتع بصلاحيات واسعة لزيارة أماكن الاحتجاز دون إذن مسبق، ومراقبة أوضاع المحتجزين، وتقديم توصيات ملزمة لتحسين الأوضاع.

وقف الانتقام من المدافعين عن حقوق الإنسان يتطلب إجراءات عملية واضحة: إقرار قانون لحماية المدافعين، إنشاء وحدة حماية متخصصة، محاسبة المسؤولين عن التهديدات والاعتداءات. الكلام وحده لا يكفي، المطلوب أفعال ملموسة تعيد الثقة.

تقوية القضاء واستقلاليته مهمة معقدة تتطلب إرادة سياسية قوية. القضاء المستقل هو حجر الزاوية في أي نظام يحترم حقوق الإنسان. هذا يعني تعيينات قضائية تعتمد على الكفاءة لا على المحاصصة، ميزانيات كافية للمحاكم، حماية فعلية للقضاة من الضغوط السياسية.

تعزيز المؤسسات الوطنية

المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق تحتاج إلى تقوية جذرية. هذه المؤسسة، التي يُفترض أن تكون الضمير الوطني في مجال حقوق الإنسان، تعاني من ضعف في الموارد والصلاحيات. تقويتها مالياً وبشرياً، وضمان استقلاليتها التامة عن الحكومة، خطوة لا غنى عنها.

إنشاء وحدات حكومية متخصصة في متابعة تنفيذ التوصيات الأممية ضرورة عملية. هذه الوحدات يجب أن تعمل بشفافية، وتقدم تقارير دورية للجمهور حول مدى التقدم في تنفيذ الالتزامات الدولية.

برامج التدريب على حقوق الإنسان لأجهزة الأمن والقضاء يجب أن تصبح إلزامية ومستمرة. تغيير الثقافة المؤسسية عملية طويلة المدى، لكنها أساسية لضمان عدم تكرار الانتهاكات.

الفصل الخامس: دور المجتمع المدني - الشريك الضروري

المراقبة والمساءلة من الداخل

المجتمع المدني العراقي، رغم التحديات والمخاطر التي يواجهها، يبقى الشريك الأساسي في أي عملية إصلاح حقيقية. منظمات المجتمع المدني تمتلك القدرة على تحويل العضوية في المجلس من مجرد لقب فخري إلى أداة ضغط فعالة للإصلاح.

إعداد التقارير الظل التي تكشف الفجوة بين الالتزامات الرسمية والواقع على الأرض مهمة حيوية. هذه التقارير تضع الحكومة أمام المرآة، وتجبرها على مواجهة تناقضاتها أمام المجتمع الدولي.

الحملات الإعلامية والتوعوية لربط العضوية في المجلس بالحقوق اليومية للمواطنين ضرورية. المطلوب تحويل النقاش حول حقوق الإنسان من موضوع "نخبوي" إلى قضية شعبية تهم كل مواطن.

بناء الشراكات الدولية مع منظمات حقوقية عالمية يوفر الدعم والحماية للناشطين المحليين، ويضمن استمرار الضغط الدولي على الحكومة العراقية.

التحديات والمخاطر

لكن المجتمع المدني العراقي يواجه تحديات جمة: التهديدات الأمنية، القيود القانونية، نقص التمويل، الاستقطاب السياسي. هذه التحديات تتطلب دعماً دولياً أقوى، وحماية أفضل من الحكومة، وتضامناً أكبر بين المنظمات المحلية.

الفصل السادس: التوصيات العملية - خارطة طريق للإصلاح

للحكومة العراقية: التزامات لا يمكن تأجيلها

1.  التصديق الفوري على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وإنشاء آلية وقائية وطنية مستقلة بصلاحيات كاملة.

2.  إعلان خطة وطنية شاملة لتنفيذ توصيات الاستعراض الدوري الشامل وهيئات المعاهدات، مع جدول زمني واضح ومؤشرات قابلة للقياس.

3.  تخصيص ميزانية كافية ومنتظمة للمفوضية العليا لحقوق الإنسان، وضمان استقلاليتها الكاملة في التعيينات والقرارات.

4.  إقرار قانون حماية المدافعين عن حقوق الإنسان وإنشاء وحدة حماية متخصصة تعمل على مدار الساعة.

5.  الرد العلني والشفاف على جميع تقارير الأمم المتحدة، خاصة تلك المتعلقة بالأعمال الانتقامية ضد المدافعين.

6.  إصدار تعهدات طوعية محددة أمام المجلس الدولي حول الإصلاحات المزمع تنفيذها خلال فترة العضوية.

للمجتمع المدني: دور لا غنى عنه

1.  تأسيس ائتلاف وطني لمراقبة أداء العراق في مجلس حقوق الإنسان، يضم جميع المنظمات الحقوقية الفاعلة.

2.  إعداد تقارير ظل دورية وإرسالها إلى المقررين الخاصين وهيئات المعاهدات، مع توثيق دقيق للانتهاكات.

3.  إطلاق حملة إعلامية شاملة تربط بين العضوية في المجلس وحقوق المواطن اليومية، باستخدام وسائل الإعلام التقليدية والرقمية.

4.  بناء شبكة علاقات دولية مع منظمات حقوقية عالمية لضمان الدعم والحماية المستمرة.

5.  التدريب والتأهيل المستمر للناشطين الحقوقيين على آليات الأمم المتحدة وكيفية الاستفادة منها.

للمجتمع الدولي: دعم الإصلاح ومحاسبة التقصير

1.  الضغط المستمر على الحكومة العراقية لتنفيذ التوصيات الأممية من خلال الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف.

2.  دعم المجتمع المدني العراقي مالياً وتقنياً، مع ضمان وصول هذا الدعم إلى المنظمات الحقيقية الفاعلة.

3.  استخدام آليات المساءلة المتاحة في الأمم المتحدة لمتابعة أداء العراق كعضو في المجلس.

4.  ربط العلاقات الاقتصادية والسياسية مع العراق بالتقدم في ملف حقوق الإنسان.

الفصل السابع: رؤية للمستقبل - العراق الذي نريد

من الدولة الأمنية إلى دولة القانون

التحول الحقيقي المطلوب في العراق ليس مجرد إصلاحات تقنية أو قانونية، بل تغيير جذري في فلسفة الحكم. من دولة تعتمد على القوة والقمع إلى دولة تؤمن بالقانون والحوار. من نظام يخاف من شعبه إلى نظام يستمد شرعيته من رضا المواطنين.

هذا التحول يتطلب وقتاً وجهداً مستمراً، لكنه ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية والدعم الشعبي والضغط الدولي. العضوية في مجلس حقوق الإنسان يمكن أن تكون محفزاً لهذا التحول، لا مجرد شهادة تقدير لما هو قائم.

العراق كنموذج إقليمي

العراق، بتجربته المريرة مع الحرب والدكتاتورية والطائفية، يمتلك فهماً عميقاً لأهمية حقوق الإنسان. هذا الفهم، إذا ترجم إلى سياسات وممارسات، يمكن أن يجعل من العراق نموذجاً إقليمياً للانتقال من النزاع إلى السلام، ومن القمع إلى الديمقراطية.

المنطقة العربية تحتاج إلى مثل هذا النموذج. بلد يثبت أن الاحترام الحقيقي لحقوق الإنسان ليس "ترفاً غربياً" بل ضرورة إنسانية عالمية. العراق لديه الفرصة ليكون هذا المثال، لكن الأمر يتطلب شجاعة سياسية ورؤية استراتيجية طويلة المدى.

خاتمة: السؤال الذي لا مفر منه

العراق اليوم يقف على مفترق طرق تاريخي. مقعده المضمون في مجلس حقوق الإنسان ليس مجرد إنجاز دبلوماسي، بل اختبار وجودي لهوية البلد ومستقبله. السؤال ليس ما إذا كان العراق سيحصل على المقعد - فهذا محسوم - بل ماذا سيفعل به.

هل سيكتفي بإضافة لقب جديد إلى سجله الدولي، أم سيستخدمه كرافعة للإصلاح الداخلي؟ هل ستبقى العضوية مجرد "ديكور دبلوماسي" أم ستتحول إلى "ثورة هادئة" في طريقة تعامل الدولة مع مواطنيها؟

المعادلة واضحة: إما أن يترجم العراق نقاطه الرقمية إلى إصلاحات ملموسة تلمسها الأرملة في البصرة والمعتقل في أبو غريب والناشط في النجف، أو يبقى مجرد "بطل في الجداول" وعاجزاً في الميدان.

التاريخ سيحكم، والشعب العراقي ينتظر. والعالم يراقب. في هذه اللحظة بالذات، عندما تتقاطع الفرصة مع المسؤولية، يمكن للعراق أن يختار: إما أن يكون جزءاً من المشكلة، أو أن يصبح جزءاً من الحل.

المرآة مزدوجة الوجوه ما زالت تنتظر أن يقرر العراق أي وجه يريد أن يُظهر للعالم، وأي مستقبل يريد أن يصنعه لأجياله القادمة. الخيار صعب، لكنه ضروري. والوقت لا ينتظر أحداً.

"في النهاية، ليست المسألة في أن نحصل على مقعد في مجلس حقوق الإنسان، بل في أن نستحقه."

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الإنسان

في المثقف اليوم