آراء
خليل الحمداني: العدالة الانتقالية أم الطوارئ الدائمة؟

قراءة في مسار العراق ما بعد 2003 على ضوء فكر روتي تايتل
مقدمة: في حضرة الغسق الدائم
- يُقال إن التاريخ يُكتب عند منعطفاته الكبرى، في تلك اللحظات الفاصلة التي يُطوى فيها ليلٌ ليبزغ فجر جديد. لكن ماذا لو أن الفجر لم يكن سوى وهمٍ، وأن ما عشناه ليس إلا غسقاً دائماً، حالةً بين بين، لا هي ظلام الاستبداد الكامل ولا هي نور الدولة القائمة على الحق والشرعية؟ هذا هو حال العراق منذ عام 2003. انطلقت آنذاك منظومة ضخمة من الإجراءات والمؤسسات تحت اللافتة البراقة لـ "العدالة الانتقالية"، حاملةً وعوداً بالقطيعة مع إرث الانتهاكات الجسيمة، وتأسيس عقد اجتماعي جديد. كانت الوعود تتحدث عن الحقيقة، والمُساءلة، وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات كجسرٍ نعبر به من ضفة الديكتاتورية إلى ضفة الديمقراطية.
- لكن بعد مرور أكثر من عقدين، تكشّفت الحصيلة عن مفارقة مريرة: الجسر الذي كان يُفترض به أن يكون مؤقتاً تحوّل إلى وجهة دائمة. الأدوات التي صُممت للانتقال أصبحت هي ذاتها أدوات الحكم. لقد شهدنا تطبيعاً مُمنهجاً للاستثناء؛ فالمؤسسات التي وُلدت "مؤقتة" بطبيعتها أصبحت بنى راسخة، والهياكل التي أُنشئت لإدارة مرحلة انتقالية تحولت إلى أدوات لإدارة أزمة مستدامة. إنها تُدار بمنطق أمني-سياسي هجين، لا همّ له سوى تكريس مصالح طبقة أوليغارشية جديدة، مُفرّغاً مفهوم العدالة من أي معنى حقيقي، ومُحوّلاً إياه إلى مجرد شعار لتبرير استمرار حالة الطوارئ.
- هذا المسار المعقد والمُخيّب للآمال يجد صداه العميق في أعمال المنظّرة الحقوقية روتي ج. تايتل، التي تُعد بحق من أهم من شرّح مفهوم العدالة الانتقالية. لقد أرست تايتل في البداية تعريفها الكلاسيكي للعدالة الانتقالية بوصفها "نمطاً وقتياً" (a temporal mode) لمعالجة إرث الماضي. لكنها، في مرحلة لاحقة، وبصيرة نافذة، لاحقت تحوّل هذا المفهوم في عالم ما بعد 11 سبتمبر، وكشفت كيف تمدد منطق الطوارئ ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الحكم اليومي، خالطاً بين فروع القانون في إطار أطلقت عليه "قانون الإنسانية" (Humanity's Law)، حيث يغدو الاستثناء هو القاعدة.
- من هذا المنظور النقدي، سنقوم في هذه الدراسة بتشريح التجربة العراقية، لا كحالة "فاشلة" من العدالة الانتقالية، بل كنموذج فائق "النجاح" في تجسيد ما أسمته تايتل "الاستثناء المُطبَّع" (the normalized exception). العراق هو المختبر الذي تحولت فيه العدالة من أفقٍ للنهاية إلى أداةٍ لإدامة اللحظة العابرة.
أولاً: الإطار النظري عند تايتل: من الوعد إلى الانزلاق
- لفهم المأزق العراقي، لا بد من العودة إلى الأسس النظرية التي وضعتها روتي تايتل، والتي تطورت عبر مسارين متمايزين.
أ. العدالة الانتقالية كـ"لحظة" تاريخية واعدة:
في كتابها التأسيسي "العدالة الانتقالية" (2000)، قدمت تايتل المفهوم باعتباره عدالة خاصة، لا تُمارس في الظروف الطبيعية المستقرة، بل في لحظات التحول السياسي الجذرية. إنها ليست مجرد تطبيق للقانون الجنائي، بل هي "منظومة متعددة الأدوات" (a multi-faceted set of measures) تشمل:
1. الحقيقة (Truth): إنشاء لجان الحقيقة والكشف عن مصير المفقودين لنسج رواية وطنية جامعة تكسر صمت الماضي.
2. المساءلة (Accountability): محاكمة كبار المسؤولين عن الانتهاكات، ليس فقط للعقاب، بل لترسيخ سيادة القانون.
3. جبر الضرر (Reparations): تعويض الضحايا مادياً ومعنوياً، كاعتراف من الدولة بمعاناتهم وإعادة الاعتبار لهم.
4. الإصلاح المؤسسي (Institutional Reform): تفكيك وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والقضائية التي كانت أداة للقمع.
- جوهر هذه العدالة، في تعريف تايتل الأول، هو أنها "مؤقتة" بطبيعتها. إنها مرتبطة بلحظة تاريخية فارقة، وتفترض وجود "أفقٍ للنهاية" (a prospective endpoint). هدفها هو إغلاق صفحة الماضي الأليم، وتأسيس شرعية لنظام سياسي جديد أكثر احتراماً للحقوق، ومن ثم تنتهي مهمتها لتعود السيادة للقانون في حالته الطبيعية.
ب. قانون الإنسانية" وتحوّل الاستثناء إلى قاعدة:
بعد عقد من الزمان، وفي عالم أعادت تشكيله أحداث 11 سبتمبر و"الحرب على الإرهاب"، عادت تايتل في كتابها "قانون الإنسانية" (2011) لترصد تحولاً جوهرياً في طبيعة القانون والحكم. لقد رأت كيف أن "منطق الطوارئ"، الذي كان يُفترض أن يكون استثناءً مؤقتاً ومحدوداً، قد تمدد وتسلل ليصبح جزءاً من الحكم اليومي. لقد ذابت الحدود الفاصلة بين حالة الحرب وحالة السلم، وبين القانون الجنائي الدولي، وقانون حقوق الإنسان، والقانون الإنساني.
- في هذا الإطار الجديد، لم تعد العدالة الانتقالية مجرد "لحظة عابرة"، بل تحولت إلى "نمط مقيم" (a permanent modality). لقد تم استيعاب أدواتها الاستثنائية (مثل المحاكم الخاصة، وقوانين التطهير، وآليات المراقبة) داخل بنية الدولة الدائمة. أصبح الاستثناء هو القاعدة، وأصبحت إدارة الأزمات هي جوهر الحكم. هذا هو "الاستثناء المُطبَّع": حالة طوارئ دائمة تُدار باسم القانون والإنسانية، لكنها في جوهرها تُكرّس السلطة وتُقصي الخصوم.
ثانياً: العراق كتجسيد حيّ لـ "الاستثناء المُطبَّع"
- إذا نظرنا إلى العراق بعد 2003 من خلال عدسة تايتل النقدية، فإننا لا نرى مجرد محاولة متعثرة لتطبيق العدالة الانتقالية، بل نرى تجسيداً مثالياً لنموذج "الاستثناء المطبع". لقد تحولت كل أداة من أدوات العدالة الانتقالية إلى نقيضها، لتُشكّل معاً بنية متكاملة لإدامة الأزمة لا لحلها.
أ) هندسة مؤسسية تُؤبّد المؤقت: قانون المساءلة والعدالة
كانت عملية "اجتثاث البعث" أول وأبرز إجراءات العدالة الانتقالية. بدأت بقرار من سلطة الائتلاف المؤقتة، ثم تم تأطيرها لاحقاً في "قانون المساءلة والعدالة" رقم 10 لسنة 2008. من الناحية النظرية، كان الهدف هو تفكيك بنى حزب البعث ومنع رموزه من العودة إلى مفاصل الدولة، كإجراء مرحلي ضروري. لكن ما حدث على أرض الواقع كان شيئاً آخر تماماً.
لم يكن القانون مجرد أداة انتقالية محدودة المدة، بل تحول إلى مؤسسة دائمة (الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة) بصلاحيات واسعة ومفتوحة. بدلاً من أن يكون أداة جراحية دقيقة لإزالة العناصر المتورطة في جرائم جسيمة، أصبح شبكة واسعة وفضفاضة، وسيفاً مسلطاً يُستخدم لتصفية الخصوم السياسيين ومنع المنافسين من المشاركة في الانتخابات. لقد تحول من أداة للعدالة إلى آلية للهندسة السياسية والاجتماعية، تُعيد إنتاج منطق الإقصاء والاشتباه، وتُبقي المجتمع في حالة استقطاب دائم. إنه المثال الصارخ على تحويل إجراء مرحلي إلى بنية مستدامة، وهو جوهر "الاستثناء المطبع".
ب) التعويض وجبر الضرر: عدالة ورقية في مواجهة المعاناة
صدر "قانون تعويض المتضررين جراء العمليات الحربية والأخطاء العسكرية والعمليات الإرهابية" (قانون رقم 20 لسنة 2009) وتعديلاته كخطوة هامة للاعتراف بمعاناة ملايين العراقيين الذين تضرروا بعد 2003. على الورق، كان القانون إنجازاً تشريعياً يعد بإنصاف الضحايا. لكن في التطبيق، تحولت رحلة البحث عن التعويض إلى مسار طويل من العذاب البيروقراطي.
واجه القانون تحديات بنيوية حادة:
1. البيروقراطية والفساد: تعقيد الإجراءات الإدارية وطلبات الإثبات، وفتح الباب أمام شبكات الفساد والابتزاز، مما جعل الوصول إلى الحق أمراً شبه مستحيل للكثيرين.
2. القيود المالية: عجز الدولة، خاصة بعد الأزمات المالية المتلاحقة وحرب داعش، عن توفير التمويل اللازم، مما جعل الكثير من القرارات القضائية بالتعويض حبراً على ورق.
3. تسييس الضحية: خلق القانون، عن قصد أو بغير قصد، تراتبية بين الضحايا. فضحايا النظام السابق الذين تُعنى بهم "مؤسسة الشهداء" يحظون بامتيازات أكبر من ضحايا العنف ما بعد 2003، مما أوجد "سوقاً للمظلومية" وأضعف فكرة المواطنة المتساوية أمام الألم.
4. وهكذا، تحول جبر الضرر من أداة للمصالحة إلى مصدر جديد للإحباط والشعور بالغبن، ومن آلية للشفاء إلى شاهد على عجز الدولة وتسييسها للمعاناة.
ج) مؤسسات الذاكرة: بين تقديس الشهادة والزبائنية السياسية
تُعد "مؤسسة الشهداء"، التي أُسست لتخليد ذكرى ضحايا نظام البعث ورعاية ذويهم، مثالاً آخر على التناقض الذي يحكم بنية "الاستثناء المطبع". من جهة، تُمثل المؤسسة اعترافاً رسمياً وحقوقياً بتضحيات فئة من المجتمع، وهو دور هام في أي عملية عدالة انتقالية. لكن من جهة أخرى، تحولت المؤسسة تدريجياً إلى إقطاعية سياسية بامتياز.
أصبحت الامتيازات التي تُمنح لذوي الشهداء (رواتب، قطع أراضٍ، مقاعد دراسية) جزءاً من شبكة الزبائنية السياسية (political clientelism). يتم توزيع هذه الموارد لضمان الولاء السياسي، مما يُفرّغ الشهادة من معناها الوطني الجامع ويحولها إلى ورقة في الصراع على النفوذ. بدلاً من بناء ذاكرة وطنية موحدة تحترم كل الضحايا، كرّست هذه المؤسسات ذاكرات متنافسة ومُسيّسة، حيث تصبح معاناة كل طائفة أو حزب وقوداً لاستمرار الصراع، لا جسراً نحو المصالحة.
خلاصة تشخيصية:
- ما نراه في العراق ليس فشلاً في تطبيق العدالة الانتقالية، بل هو بناء منظومة متكاملة وناجحة لتطبيع الاستثناء. منظومة تتكون من قوانين ومؤسسات وكيانات تحكم بمنطق الأزمة المستمرة. لقد تحولت العدالة من مشروع للعبور نحو المستقبل، إلى إدارة متواصلة لجراحات الماضي، واستثمارها لضمان بقاء الحاضر على ما هو عليه.
ثالثاً: فرادة الحالة العراقية في مرآة التجارب الأخرى
- تبرز الطبيعة الاستثنائية للمسار العراقي بشكل أوضح عند مقارنته بتجارب دولية أخرى، حيث نرى أن لكل تجربة منطقها الخاص، لكنها جميعاً تُضيء على تفرد المأزق العراقي.
أ) لبنان: صمت العفو العام: في لبنان، اختار المشرّع بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990) إصدار قانون عفو عام وشامل عام 1991. كان هذا الخيار يمثل "عدالة الصمت"، حيث تم طي صفحة الماضي بالقوة التشريعية، دون مساءلة أو لجان حقيقة. النتيجة كانت إنتاج "ذاكرة مجروحة" وسلام هش قائم على التناسي لا المصالحة. ذهب العراق إلى الاتجاه المعاكس تماماً: "إفراط تشريعي" في قوانين العدالة والذاكرة. لكن المفارقة أن النتيجتين تكادان تكونان واحدة: غياب انتقال مؤسسي حقيقي، واستمرار الانقسامات تحت رماد الصمت أو ضجيج القوانين.
ب) تونس: توثيق الحقيقة وسط التجاذبات: تمثل تجربة "هيئة الحقيقة والكرامة" في تونس (2014-2019) نموذجاً مغايراً. رغم كل التجاذبات السياسية التي أحاطت بعملها، نجحت الهيئة في إنجاز مهمتها الأساسية: توثيق انتهاكات الماضي وإنتاج تقرير ختامي شامل باللغة العربية. هذا التقرير أصبح إرثاً معرفياً ووثيقة تاريخية لا يمكن تجاوزها، حتى لو تم تجاهل توصياتها. لقد قدمت تونس نموذجاً في "أرشفة الألم" كخطوة أولى نحو الاعتراف. العراق، بكل مؤسساته وقوانينه، لم يتمكن من إنتاج مثل هذا التوثيق الشامل والمُجمع عليه، بل أنتج روايات متصارعة.
ج) كولومبيا: عدالة هجينة في ظل نزاع مستمر: تُظهر تجربة كولومبيا، مع "المحكمة الخاصة من أجل السلام" (JEP) التي أُنشئت بعد اتفاق 2016، مساراً معقداً لعدالة ترميمية تعمل بالتوازي مع استمرار بعض جيوب النزاع. تواجه المحكمة تحديات ضخمة في بطء تنفيذ قراراتها. القاسم المشترك مع العراق هنا هو تعثر الانتقال بسبب استمرار الأزمات الأمنية. لكن الفارق الجوهري يكمن في التصميم: النظام الكولومبي مصمم كآلية للخروج من النزاع عبر عدالة تفاوضية تركز على الحقيقة مقابل العقوبات المخففة، بينما النظام العراقي، كما أسلفنا، مصمم لإدامة منطق الاستثناء والصراع.
رابعاً: هل نبني على ما أُنجز محلياً بدل الهدم وإعادة الصفر؟
- على الرغم من قتامة هذا التشخيص، فإن القول بأن التجربة العراقية كانت فشلاً مطلقاً هو تبسيط مخل. لقد تراكم خلال العقدين الماضيين إرث وطني هائل ومعقد: قوانين، مؤسسات، خبرات قضائية، ملايين الوثائق، وشهادات الضحايا. هذا الإرث، على كل علاته، لا يمكن تجاهله أو البدء من الصفر. السؤال ليس كيف نهدم، بل كيف "نعيد هندسة" ما هو قائم لتحقيق غايات مختلفة. إن الانتقال من "الاستثناء المطبع" إلى "عدالة انتقالية ثانية" يتطلب إعادة توجيه البنية القائمة، لا تدميرها. وهذا يمكن أن يتم عبر مسارات متوازية:
أ) ترسيم خط نهاية قانوني لمنطق الاستثناء: الخطوة الأولى والأكثر أهمية هي اتخاذ قرار سياسي شجاع بإنهاء "الحالة الاستثنائية". هذا يعني تحديد سقف زمني واضح لعمل قانون المساءلة والعدالة، وتحويل الهيئة القائمة عليه إلى مديرية لحفظ الأرشيف ضمن مؤسسة وطنية للذاكرة، وإنهاء استخدامه كأداة للإقصاء السياسي.
ب) تحويل خبرة القضاء الخاص إلى القضاء العادي: اكتسب القضاة العراقيون خبرة فريدة في التعامل مع الجرائم الجسيمة من خلال المحكمة الجنائية العراقية العليا ومحاكم الإرهاب. يجب نقل هذه الخبرة المتراكمة وتعميمها داخل منظومة القضاء العادي، كجزء من إصلاح أوسع لقطاع العدالة يهدف إلى بناء قضاء قوي ومستقل قادر على التعامل مع هذه الجرائم ضمن القانون الطبيعي، لا الاستثنائي.
ج) ترقية مسار جبر الضرر إلى برنامج جبر شامل: بدلاً من القوانين المتعددة والمنفذة بشكل سيء، يجب توحيد التشريعات في "برنامج وطني شامل لجبر الضرر". هذا البرنامج يجب أن يُموّل بشكل جيد، وأن يدار بآليات شفافة بعيداً عن التسييس، وأن يشمل ليس فقط التعويض المادي، بل أيضاً التأهيل النفسي، والاعتذار الرسمي، ومشاريع الذاكرة التي تعترف بكل الضحايا دون تمييز.
د) تأهيل مؤسسة الشهداء بمنطق الحقوق لا الزبائنية: يجب إعادة هيكلة مؤسسات الذاكرة، وعلى رأسها مؤسسة الشهداء، لتنتقل من منطق "الزبائنية" وتوزيع الامتيازات إلى منطق "الحقوق والمواطنة". يجب أن تُعنى بخدمة كل ضحايا الانتهاكات الجسيمة، وأن يكون دورها الأساسي هو التوثيق والتخليد وبناء ذاكرة وطنية جامعة، لا خلق طبقة من المستفيدين سياسياً.
ه) مواءمة إصلاح العدالة مع إصلاح أوسع لحكم القانون: لا يمكن لأي عدالة انتقالية أن تنجح بمعزل عن إصلاح أوسع يشمل قطاع الأمن، ومكافحة الفساد، وترسيخ مبدأ سيادة القانون. يجب أن تكون العدالة الانتقالية جزءاً لا يتجزأ من مشروع أكبر لإعادة بناء شرعية الدولة ومؤسساتها.
خاتمة: إنهاء المؤقت لإعادة بناء الشرعية
- بالعودة إلى منطق روتي تايتل، يمكن القول إن تعثّر "انتقالية" العراق لم يكن مجرد صدفة أو نتيجة سوء تطبيق، بل كان نتيجة حتمية لتحوّل الاستثناء إلى نمط حكم. لقد تم تطبيع الطوارئ، وتسييس العدالة، وتحويلها إلى أداة في يد حكم أوليغارشي لإدامة نفسه عبر إدارة الأزمات.
- لكن الإرث الوطني الذي تراكم، بكل تناقضاته، يظل مادة خام يمكن البناء عليها. إن الخروج من هذا النفق المظلم لا يتطلب استيراد نماذج جديدة، بل يتطلب شجاعة سياسية لإعلان نهاية "المرحلة المؤقتة" التي طالت أكثر من اللازم. إن إطلاق "عدالة انتقالية ثانية" في العراق اليوم يعني، ببساطة، إنهاء منطق الاستثناء وإعادة بناء الشرعية على أساس القانون والمواطنة المتساوية. عندها فقط، يمكن للغسق الدائم أن ينجلي، ولبذرة الدولة أن تنمو على أرض لم تعرف سوى الحرائق.
***
خليل إبراهيم كاظم الحمداني
باحث في مجال حقوق الانسان
..........................
- مراجع مختارة
- Teitel, Ruti G. Transitional Justice. Oxford University Press, 2000.
- Teitel, Ruti G. Humanity's Law. Oxford University Press, 2011.
- قانون المساءلة والعدالة، رقم 10 لسنة 2008. جمهورية العراق.
- قانون تعويض المتضررين جراء العمليات الحربية والأخطاء العسكرية والعمليات الإرهابية، رقم 20 لسنة 2009 وتعديلاته. جمهورية العراق.
- Human Rights Watch (HRW). "تعويض ضحايا داعش: قليل ومتأخر." 2023.
- هيئة الحقيقة والكرامة – تونس. التقرير الختامي الشامل. 2019.
- International Center for Transitional Justice (ICTJ). Colombia's Special Jurisdiction for Peace: Achievements and Challenges. تقارير دورية.
- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في العراق. تقارير حول إصلاح قطاع العدالة والأمن.