آراء

عبد السلام فاروق: العاصفة الثقافية القادمة

من منا لا يري أو يلاحظ كل تلك الأحداث التي تحيط بنا فى الإقليم والعالَم منذ أكثر من عِقد ونصف مضيا؟! وهي أحداث تقود فى مجملها لتحولات عظيمة وجوهرية، حتماً وبلا أدني شك إننا مقبلون نحو عصر جديد محفوف بمنحنيات تاريخية فارقة. الجميع يري هذا ويلاحظه ويتخوف منه.

وعلي مستوي العمل الصحفي والثقافي أري مثل هذا التغير البطيء المحدود في إطار ذلك التغير الكبير القادم. أراه كعاصفة توشك أن تزيح في طريقها كثير من ثوابت العصر الماضي..

صولجان ترامب

أول وأهم تغير عالمي جذري حدث في السياسة الأمريكية داخلياً وخارجياً. ثمة عواصف تبدأ الآن من هناك في أقصي الغرب، حيث ترامب في ولايته الثانية قادم بثوب سلطان وفي يده صولجان يلوح به فى وجه حلفائه قبل أعدائه!

ثلاثة أشهر فقط منذ تولي العمل فى البيت الأبيض والعالَم يقف على قدم فى اندهاش؛ كيف أنه خلال هذه الفترة الضئيلة أقام الدنيا ولم يقعدها. ففاجأ حلفاءه الأوربيين باتفاق أحادي مع روسيا وزيلينسكي لوقف الحرب الأوكرانية الروسية، ثم التفت شمالاً وجنوباً فهدد كندا والمكسيك حلفاءه الاقتصاديين القدامي، فراح يخنقهم بإجراءات اقتصادية غير مسبوقة.

إنه يعلن ببساطة ووضوح أنه ليس فى حاجة إلى أي دولة بجانبه، حتي إسرائيل، ولهذا اتجه للاتفاق مع غزة بعيداً عن نتنياهو من أجل الأسري الأمريكيين ولأجل مصالح أمريكا مع السعودية والمنطقة العربية. ولنفس السبب اتجه للاتفاق مع إيران بمنأي عن تدخل نتنياهو إلا بمؤامراته الخسيسة، ومنها ذلك الإنفجار الغامض مجهول الفاعل بميناء رجائي فى بندر عباس بإيران!

ترامب لوح بصولجانه السحري المزعوم لحل كل مشاكل أمريكا والعالم بمجموعة من القرارات والاتفاقيات العنترية وإن لم تعجب حلفاء الأمس. قرار برفع الجمارك أكثر من مائة بالمائة علي البضائع الصينية، واتفاق عسكري أحادي مع روسيا، وآخر سياسي مع إيران. وثالث اقتصادي مع الصين. وكلها اتفاقيات جاءت بعد ضغوط وتهديدات عنترية يرفع بها سقف المفاوضات، هذا هو نهج ترامب الجديد، فهل ينجح صولجان ترامب فى تغيير شكل السياسة العالمية بقيادة أمريكية غامضة الهوية؟ وما تأثير تلك العاصفة القادمة من الغرب؟

بديل هوليود

ثمة تغيير آخر بطيء ربما، لكنه مستمر منذ فترة. وقد يراه البعض تغيراً تافهاً، وإن كنت أراه غير ذلك. إنها هوليود يا سادة. هوليود مهددة بالانهيار والأفول، فما تأثير مثل هذا الانهيار لوحدث؟

منذ نحو عشر سنوات مضت، تبدلت السياسة الإنتاجية لهوليود، بعد أن وصلت لمنتهي تألقها بإنتاج أفلام باهظة التكلفة أمثال: أفاتار وأفنجرز، وسيطرت شركات إنتاج إنيمي ورسوم متحركة وخيال علمي وخدمات البث الحي أمثال: مارفل  ونتفليكس علي حساب شركات كبري قديمة كانت أكثر شهرة فانحسرت شهرتها كشركة يونيفرسال ووارنر برازرز وباراماونت وغيرها. وبات الإنتاج المشترك بديلاً عن المغامرات الإنتاجية الفردية لشركة واحدة بعينها. وبدأ عصر الاندماجات الاستثمارية لشركات الإنتاج الأقل ربحاً.

ثم جاءت جائحة كورونا فأغلقت الإنتاج الهوليودى لحين إشعار آخر. ولم تكد الحياة تعود لهوليود حتي حدثت أزمة إضراب عمال هوليود من مؤلفين وفنيين عام 2023. وآخر الأزمات التي تعرضت لها هوليود حرائق لوس أنجلوس أواخر العام الماضي، ورغم أنها لم تصل إلى المباني الخاصة بأغلب شركات الإنتاج الكبري، إلا أن كثيراً من عقود العمل والإنتاج تم تأجيلها بسبب الحرائق، ناهيك عن قصور مشاهير الممثلين التي احترقت ودُمِّرت.

الأزمة الأكبر أمام شركات الإنتاج فى هوليود لا تتمثل فقط في الخسائر والأزمات التي حدثت خلال السنوات العشر الماضية، وانحسار نشاط بعض شركات الإنتاج الكبري فى مواجهة شركات أخري بديلة، أو الاندماجات التي اضطرت لها بعض الشركات. بل الأزمة الأكبر فى تغير اتجاهات المستهلكين، وشيوع صناعة الترفيه بالقدر الذي جعلها شبه مجانية أمام مستهلكين بدأوا يتجهون للفضائيات بدلاً من السينما، وبات هناك تهديد حقيقي لانحسار صناعة السينما، لا في هوليود وحدها بل والعالم أجمع!

وإذا كان المال هو الذي يتكلم، فهل ستظل أمريكا محتفظة بعرش صناعة الترفيه فى العالَم، أم تتجه بوصلة صناعة الثقافة الترفيهية لملعب جديد يتكلم فيه اليوان بدلاً من الدولار؟! وهل تظل السينما هي اللاعب الأول فى هذا الملعب أم الجيل الخامس والسادس من تقنيات الإتصالات والإنترنت والفضائيات والذكاء الاصطناعي؟!

الكتب للأغنياء فقط!

هناك أزمة محلية وعالمية فى طباعة الكتب والصحف بدأت منذ فترة، وهي تتفاقم باستمرار. وخلال 15 عاماً الماضية أغلقت نحو 2200 صحيفة مطبوعة فى أمريكا وحدها! وانخفض عدد الصحفيين العاملين في المؤسسات الصحفية الكبري بها إلى النصف. وأشار تقرير نشره معهد بروكينجز إلى أن عدد الصحف لكل مائة مليون نسمة انخفض من 1200 عام 1945 إلى 400 فى عام 2014! أي انخفاض للثلثين فى 70 عاماً رغم الزيادة السكانية!

أزمة المطبوعات فى مصر تزداد شدتها لأسباب اقتصادية مركبة، وأحد أسبابها ارتفاع أسعار الورق والأحبار، وقلة العمالة الماهرة وارتفاع أجرها. بينما فى المقابل ظهر الإنترنت ليصبح بديلاً رخيصاً للكتاب التقليدي المطبوع، ويصبح بإمكان أي شخص الحصول على مئات الكتب الإليكترونية داخل "فلاشة" بحجم عقلة الإصبع يضعها فى ميدالية تسكن جيب بنطاله! بدلاً من مكتبة ضخمة يخصص لها حجرة من حجرات بيته الضيق، وينفق لأجلها آلاف الجنيهات!

كنا فى السابق نتندر ونراهن أن الكتاب المقروء سوف يصمد فى مواجهة تلك الموجة العاتية من موجات التقدم التقني، لكننا الآن لسنا واثقون تماماً من هذا. وهناك شواهد أن الكتاب المطبوع سوف ينحسر كما وكيفاً فى المستقبل القريب، حتي على مستوي سياسات الدول، وخاصة في الدول النامية والفقيرة. وإذا حدث هذا فسوف يأتيتحول كبير فى هذا السوق الضخم، سوق الكتب المطبوعة؛ لأنها ستشح ويقل عددها، وبالتالي سيرتفع سعرها فى الأسواق، وربما يتضاعف سريعاً، ليصبح الكتاب المطبوع مقصوراً على الأثرياء وجامعي التحف ومحبي جمع الكتب!

غول الذكاء الاصطناعي

عاصفة أخري توشك أن تجتاح العالم في السنوات القادمة، تحمل فى قلبها موجة من موجات التغيير الثقافي والفكري. تلك الموجة التي لن تعترف بجهلاء العصر القادم الجدد، وهم أولئك الذين يجهلون كيفية استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي فيتجاوزهم الزمن.

المسألة أكبر من مجرد العبث بمحركات بحث وتطبيقات ديب سيك وشات جي بي تي. فليست تلك إلا إحدي أدوات الذكاء الاصطناعي التي تعددت وشملت عددا من أهم المجالات الاقتصادية، كالعقارات والسيارات والترفيه وسلاسل الإمداد والتوزيع وغيرها من المجالات.

لا أنسي فيديو انتشر منذ فترة لعاملة بأحد المؤسسات في الغرب حاولت الانتقام من روبوت حل محلها فى العمل، فأسرعت تحاول تدميره لاستعادة وظيفتها الضائعة! مثل هذا المشهد هل يسود سوق العمل فى سنوات قادمة؟ هل تحل الآلة محل البشر فى الوظائف والأعمال، وبخاصة تلك الأعمال التي تتطلب مهارات تتفوق فيها الآلة على الإنسان وتنتج أكثر منه وأسرع؟ بل وهي تتطور باستمرار فيما يظل الموظف التقليدي محتفظاً بإنتاجه المحدود.

يؤكد جيفري هنتون، الأب الروحي للشبكات العصبية الاصطناعية والعالِم الذي حصل على جائزة نوبل وقام بتطوير الموجة الأخيرة من موجات تطور الذكاء الاصطناعي، أن التطور الهائل والسريع فى شبكات الذكاء الاصطناعي حول العالَم والتي باتت ذاتية التطور، تدق ناقوس الخطر، وأنها ستصل فى غضون خمس سنوات إلى مرحلة من الخطورة تهدد البشر في وظائفهم، وسوف يصبح الإنسان ثاني أذكي مخلوق بعد الـ AI! إنه غول الذكاء الاصطناعي، أحدث موجات العاصفة الثقافية القادمة نحونا بقوة.

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم