آراء
عبد السلام فاروق: لعبة الأمم.. سقوط المرايا وولادة الفوضى!

العولمة كانت حلمًا أمريكيا خالصا. ولد من رحم انتصارات الحرب العالمية الثانية، عندما اجتمع المنتصرون في "بريتون وودز" ليقسموا العالم إلى مربعات اقتصادية، ويختاروا الدولار لغة وحيدة للتبادل. كانت الفكرة بسيطة كخدعة ساحر: اجعل الجميع يؤمنون أن السوق الحر هو طريق الخلاص، ثم امسك أنت بزمام البنوك والجيوش. العولمة لم تكن نظامًا طبيعيًّا، بل قصة روتها أمريكا لذاتها أولًا، ثم صدقها العالم حين رأى في الدولار مرآة تعكس قوة لا تهزم. لكن المرايا لا تكذب إلا حين تكون الأشباح خلفها حية.
الليبرالية الجديدة، ذلك التنين الذي روضته أمريكا، لم يكن سوى وحشٍ من ورق. لقد أقنعونا أن يد السوق الخفية ستوزع العدل، وأن حرية رأس المال ستجعل الفقير يرقص مع الغني على إيقاع واحد. لكن اليد الخفية كانت دائمًا ترتدي قفازًا عسكريًّا. حين انهارت الاتفاقيات، أو رفضت دولة لعبة الدولار، كانت حاملات الطائرات تذكر الجميع بمن يملك حق الفيتو على القوانين والأخلاق.
إذن العولمة الأمريكية لم تكن نظامًا اقتصاديًا، بل آلة لترجمة القوة إلى هيمنة. الدولار لم يكن عملة، بل سيفًا مسلطًا على رقاب الدول. حين أرادت إيران أن تبيع نفطًا باليورو، تحولت حساباتها إلى أشباح في النظام المصرفي العالمي.
شروخ في المرآة
لم تسقط العولمة لأن أحدًا كسر القواعد، بل لأن أمريكا نفسها بدأت ترتعش بيدها. حين أدار ترامب ظهره لاتفاقيات المناخ ورفع شعار "أمريكا أولًا"، وفرض جمارك علي واردات نحو 184 دولة حول العالم، لم ترامب يكن يخون المبدأ، بل يكشفه: العولمة مجرد غطاء لمصالح القوي. الصين، التلميذة التي تجاوزت المعلم، لم تعد تخشى السيف القديم. أقامت طرقًا حريرية تتفادى الدولار، ونسجت شبكات تجارية مع من كانوا بالأمس عملاء لواشنطن.
أوروبا، التي ظلت لعقودٍ جالسة في الظل، بدأت تلملم كرامتها. اتفاقيات التجارة مع آسيا، والحديث عن جيشٍ أوروبي موحد، كلها إشارات إلى أن التبعية لم تعد خيارًا. حتى أمريكا اللاتينية، التي ظنتها واشنطن حديقتها الخلفية، ترفع الآن رايات التحرر من "العقيدة الشمالية"، وتتطلع إلى بكين وموسكو.
الأكاذيب:
أول أكذوبة هي أن "العولمة تعني الازدهار للجميع". الحقيقة أن الازدهار كان يوزع كالجوائز في حفلةٍ خاصة. الشركات العابرة للقارات نقلت المصانع إلى حيث الأجور أرخص، وحولت العمال إلى أرقام في جداول أرباحها. أوهايو التي كانت تغني بصناعة الصلب، صارت ترثي أبنائها الذين تسمموا بأحلام الوظائف العائدة.
ثاني أكذوبة: "العولمة تنشر الديمقراطية". الحقيقة أن الديمقراطية صارت سلعة تصدر مع الأسلحة. حين فتحت واشنطن أسواق الشرق الأوسط بالدبابات، لم تكن تزرع حرية، بل تخلق فوضى تسمح لشركاتها بسرقة النفط تحت شعار "إعادة الإعمار".
صحوة الجنون الأمريكي
أمريكا التي صنعت النظام بدأت تهدمه بشراهة لا تعرف الخجل. الحروب التجارية مع الصين، والتهديدات لأوروبا، والعقوبات التي تشل حركة الحلفاء، كلها أفعال تشبه انتحارًا بطيئًا. لم تعد واشنطن قادرة على لعب دور الشرطي واللص في آن واحد.
الجنون الأمريكي ليس في رفض العولمة، بل في اعتقادها أنها تستطيع العيش خارج التاريخ. الصين تبتكر، روسيا تعيد تشكيل تحالفاتها، والجنوب العالمي يكتشف أن اللعبة يمكن أن تلعب بأكثر من مائدة.
ما بعد السقوط
العولمة الأمريكية تحتضر، لكن العالم لا ينتظر الجنازة. الفوضى التي نراها ليست نهاية، هي مخاض ولادة نظام جديد. العملات الرقمية تتحدى الدولار، التكتلات الإقليمية تعيد رسم الخرائط، والتكنولوجيا تمنح الصغير سلاحًا لمحاربة الكبير.
السؤال الآن: هل سنرى عالمًا تتعدد فيه المراكز، أم ستنزلق البشرية إلى حروبٍ باردة جديدة؟ التاريخ لا يكرر نفسه، لكنه يعلمنا أن القوة لا تموت، بل تتنكر في أزياء مختلفة. أمريكا قد تفقد تاجها، لكن المعركة القادمة هي بين من يريدون إمبراطوريات مغلقة، ومن يحلمون بعالم لا يملك فيه أحد حق فرض القواعد.
العولمة كانت مرآة أمريكا. الآن، وبعد أن سقطت المرآة، نرى وجوهًا كثيرة تبحث عن هوية جديدة في شظايا الزجاج.
العولمة ليست شيئًا، بل قصة. والقصة الأمريكية بدأت تنفد من الحبر. ما فعله ترامب وماسك ليس خيانة للفكرة، بل كشفًا لجوهرها: أنها كانت دائمًا أداة للهيمنة، وليست عقيدة مقدسة. هنا تكمن المفارقة: النخبة التي صنعت الوهم صارت أول ضحاياه. حين تخلت وول ستريت عن "اليد الخفية" لتنقذ نفسها خلال أزمة 2008، كانت تقطع الغصن الذي تجلس عليه.
مقارنة واحدة تكفي: في 1944، اجتمع رجال "بريتون وودز" ليكتبوا دستور العالم الجديد. في 2024، يجتمع قادة مجموعة "بريكس" في كازان الروسية ليعلنوا موت ذلك الدستور. الفرق ليس في القوة، بل في السردية. أمريكا التي روت للعالم حكاية "القرية الكونية" تكتشف أن القرويين قرروا بناء قرى متوازية.
التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يغمز. روما التي نشرت القانون ثم انهارت تحت ثقل فسادها، بريطانيا التي غربت عنها الشمس حين رفعت شعار "بريطانيا أولًا" في حقبة الاستعمار الجديد، والآن أمريكا التي تبيع أسهمها في مشروعها العالمي. الفارق الوحيد: الإمبراطوريات القديمة كانت تسقط بفعل الغزاة، أما أمريكا فتنهار بيد أبنائها.
ترامب ليس برتوس يطعن قيصر، إنه قيصر الذي يطعن نفسه. حين قال: "أمريكا لم تعد ترضى بأن تكون ممثل العالم"، كان يجهل أن البطولة كانت السبيل الوحيد لبقائها. الصين، بتلمذتها الذكية، تعلمت درسًا من التاريخ: الإمبراطورية تدوم حين تكون قواعد اللعبة ملكًا للجميع، لكن الفائز دائمًا هو من يكتب القواعد.
صخرة التناقض..
الهند.. تحولت من مستعمرة رقمية إلى إمبراطورية بيانات: كانت الشركات الأمريكية ترى في الهند سوقًا لبيع الهواتف الذكية، لكن "الرقمنة الهندية" قلبت المعادلة. نظام "اليوبي آي" للمدفوعات الإلكترونية حول المليارات من الفقراء إلى لاعبين في الاقتصاد الرقمي، دون المرور عبر فيزا أو سويفت. الهند لم ترفض العولمة، بل اخترقتها بأدواتها.
أفريقيا: حين يتحول المستعمَر إلى شريك: الصين لا تقدم خطابات عن الديمقراطية في أفريقيا، بل تبني موانئ وسكك حديد. النتيجة؟ 43 دولة أفريقية وقعت على مبادرة الحزام والطريق، ليس حبًا في بكين، بل لأن واشنطن ظلت لعقود تتعامل مع القارة كمتسولةٍ تنتظر الصدقات.
أوروبا الشرقية: سور من الخرسانة واليورو: بولندا التي قاومت الشيوعية بمساعدة أمريكا، ترفض اليوم استقبال اللاجئين من الشرق الأوسط بدعم من الخطاب الشعبوي. هنا يظهر تناقض العولمة الأمريكية: شعارات "حقوق الإنسان" تتحطم أمام أول اختبار لمصالح الدول.
من نيتشه إلى زوكربيرج..
"كل ما هو عظيم ينهار من الداخل" – هذه العبارة التي تنسب إلى نيتشه تصف أمريكا بدقة. حين حول المشرعون في واشنطن الكونجرس إلى سوق لصفقات السلاح والنفط، كانوا يحفرون قبر الهيمنة الأخلاقية.
"لا يمكنك أن تكون سوبرمان وضحية في الوقت نفسه" – مقولة الكاتب الهندي أروهنداتي روي تشرح تناقض الخطاب الأمريكي: التمسك بلقب "الشرطي العالمي" مع تصوير النفس كضحيةٍ للصين والهجرة.
"البيانات هي النفط الجديد" – مقولة ماثيو هوبرت لم تكن بريئة. حين قالها مدير "إيكسون موبيل" السابق، كان يعترف بأن عصر الهيمنة بالدبابات انتهى، وأن المعركة القادمة ستكون على خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
لقد كانت العولمة أشبه بتمثال ضخم من الثلج. نحتته أمريكا بيدين خبيرتين، لكنها نسيت أن الثلج يذوب تحت شمس مصالحها القصيرة. حين أسمع سياسيًا أوروبيًا يتحدث عن "الاستقلال الاستراتيجي"، أو شابًا مصريًا يبيع منتجات على "علي بابا" دون دولار، أعلم أن العالم يعيد تشكيل نفسه خارج الصندوق الأمريكي.
التكنولوجيا علمتنا درسًا قاسيًا أن الهيمنة لم تعد تحتاج إلى أساطيل، بل إلى رموز برمجية. الصين التي تفوقت في صناعة الرقائق الإلكترونية، والهند التي تصدر المبرمجين، كلها علامات على أن القوة صارت سائلة، تتدفق عبر الكابلات الضوئية لا عبر سفن الأسطول السادس.
صعود التنين
العالم يقف على مفترق طرق تاريخي: فوهة بركان تنفث فرصًا لم تكن متاحة منذ قرون، وفي نفس الوقت تهديداتٍ كامنة قد تعيدنا إلى عصور الظلام. الصين ترفع مشعل "العولمة البديلة" عبر طرقها الحريرية الرقمية، بينما أمريكا تطلق رصاصاتها الأخيرة في حروب تجارية وثقافية قد تحرق الأخضر واليابس.
لكن الخطر الحقيقي ليس في القوة الصينية، بل في الفراغ الذي ستتركه أمريكا. حين ينهار "الشرطي العالمي"، تظهر عصابات إقليمية (إيران، تركيا،،...) كل يحمل سلاحه ويرسم حدوده بالدم.
هل نستحق فرصةً ثانية؟
العالم اليوم، أمام اختبار وجودي: إما أن يتعلم من أخطاء العولمة الأمريكية فيبني نظامًا متعدد الأقطاب يتشارك الثروات، أو يسقط في فخ "الحروب والصراعات " حيث تحل النزاعات بالحصار الاقتصادي والجيوش الالكترونية.
***
د. عبد السلام فاروق