آراء
رشيد الخيّون: عجائب الثورات.. قطاعو طرقٍ ولصُوصٌ
تجد كتب التَّاريخ ملأى بالغرائب والعجائب؛ تسمع بشخصية ذي مكانة في قيام ثورة مِن الثَّورات، أو دولة مِن الدُّول، وإذا به وصل إلى ما هو عليه، بعد إشقاء النّاس بقطعه الطّريق، واللصوصيَّة. تجمّع حوله قاطعو الطُّرق الصّغار، واللُّصُوص المطاردون، الذين بالعادة يسبتون نهاراً، داخل الكهوف والمغارات والأماكن المهجورة، وينتشرون ليلاً للتلصَّص، وإذا بهم يجدون أنفسهم منتظمين في جيش، يحملون السّلاح.
أصبح ما ينهبونه مِن أموال، ويسفحونه مِن دماء، عملاً مشروعاً، لا يخشون سجناً وقطع أيدٍ، ما زال إمامهم يوعدهم بدولته، وأرزاقهم، حيث تصل سيوفهم ورماحهم، أمَّا السُّلطة، التي يحاربونها، فمارقة على الدِّين، وأول ما يتمكن الزعيم تُقرأ باسمه الخطبة. فهذا أحد زعماء اللّصوص يقول بعد توبته: «قل للصُوصِ بني الخناء يحتسبوا/ بزَّ العراق وينسوا طرفة اليمن»(الآمدي، المؤتلف والمختلف).ِ
رصدتُ الكثير ِن هؤلاء، في «لُصوص الأموال ومنتحلي النُّصوص»(مركز المسبار)؛ مع الحذر، فليس كلّ خارج على سلطنة، في مختلف العهود، على هذه الشّاكلة، إنما هي ظاهرة محصورة بمَن قاد اللُصُوص ليصبح بهم إمامٌ. نجد بينهم أسماء شغلت المؤرخين، بينهم مَن نجح، ومِن قُتل، فتفرق عنه الأعوان عائدين إلى أوكارهم.
يأتي في المقدمة الثَّائر عبيد الله بن الحرّ(قُتل: 67 هجرية)، جمع حوله الصّعاليك واللّصوص، وكان خلاف ما ذَكر بعضهم، لم ينوِ قيام دولة، بقدر ما غايته المال والجاه. كان جسوراً شجاعاً، تجنب الدخول في المعارك بين العلويين والأمويين، شكل جيشه ممَن ذكرنا، قاتلَ المختار الثَّقفيّ(تـ: 67 هجرية)، وقاتل الزُّبيريين، حتَّى قُتل، وحُمل رأسه إلى عبد الله بن الزُّبير(قُتل: 73هجرية) بمكة، وهو صاحب البيت المعروف: «فلا كوفة أمُّي ولا بَصرةَ أبي/ ولا أنا يثنيني عن الرّحلة الكسل»(ابن أعثم، كتاب الفتوح)، فكان ثائراً جوالاً بجيشه.
يُذكر أنَّ أبا مسلم الخراساني(قُتل: 136هجرية)، كان غلاماً عند قاطع طريق، وسُجن معه واللُصوص، فتعرف عليه أحد دعاة العباسيين المسجونين، وكسبه إليهم، حتى قابل زعيم الدَّعوة إبراهيم الإمام(قُتل: 131هجرية)، فاُعجب به، فضمه إلى حركته، وحصل ما حصل مِن قيادته للثورة العباسيَّة(كتاب أخبار العباس وولده).
يُذكر أنَّ أبا السَّرايا السَّري بن المنصور الشّيباني(قُتل: 200هجرية)، «خالف السُّلطان ونابذه، وعاث في نواحي السَّواد»(الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيين)، كان يقطع الطَّريق مع جماعة، ثم التقى بأحد العلويين، فصار يدعو له، بالكوفة في زمن المأمون(198-218 هجرية)، واستولى على اليمن ومكة. كان معه إبراهيم ابن الإمام موسى الكاظم، وبعد مقتل أبي السّرايا، عاد إبراهيم إلى بغداد، بشفاعة أخيه ولي العهد عليّ الرِّضا(تـ: 203 هجرية)، وعاش ببغداد ومات بها(ابن الطَّقطقيّ، الأصيلي، في أنساب الطَّالبيين).
يأتي اسم عمران بن شاهين، الذي طاردته السلطة لجنايةٍ، ليست سياسيّة، فهرب واختلط باللُّصوص، فشكل منهم جيشاً مقاتلاً، وظل يُحارب البويهيين(388-369هجرية)، على الرّغم هما على تجاه واحد، وأقام إمارة بالبطائح، جنوب العِراق، حيث مسقط رأسه «الجامدة، تولاها بعده أولاده، لأكثر مِن مئة سنة»(مسكويه، تجارب الأُمم وتعاقب الهمم).
هذا، غيض مِن فيض، فالوقائع وأسماء الثَّائرين كثيرة، في الماضي والحاضر، وتتبدل النَّوايا، وتكبر الأطماع، فلِصُّ الأمس يصبح ثائراً قائداً اليوم، يتحكم بالأرواح والثّروات، مع أنه لم يغير شيئاً، فما أقنع به أتباعه مِن أهداف، تراه أول الخارجين عليها، ومَن وعد العبيد بتحريرهم، عندما تمكن صار مِن ملاكهم، بعد أن مكنوه بسيوفهم.
حتَّى اليوم، كم مِن جماعة خارجة على القانون بسلاحها، وتضع لها شعارات وأهدافاً جساماً، غير أنَّها، في الحقيقة، مبنية على أخلاق العصابات، فكم مِن زعيم صارت بيده رقاب النّاس، ملك البر والبحر، لكنه ظل ذلك الشّريد، الباحث عن المجد بين قطاعي الطُّرق واللُّصوص؛ إنَّها غرائب وعجائب الثّورات.
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي