آراء
علجية عيش: من وراء تحريك رياح العنف وقادة التيار الإسلامي اليوم؟
هل يمكن إبطال مقولة "لا يصلح العطّار ما أفسده الدّهر"؟
(الحِوَارُ بات حتمية لمعرفة الآخر وفَهْمِهِ)
سؤال وجب اليوم أن يطرح وبشدة وهو لماذا يرفض الحكام الحوار مع المعارضة، وكأن الأنظمة الحاكمة والمستبدة ما تزال تطبق على معارضيها ذهنية: " أسكت يا ولد"، كما ترى المثقفين والمفكرين بأنهم ما زالوا صغارًا على اللعب السياسي، أليست المبادرات الفكرية تأتي عن طريق الحوار؟ المشكلة كما يري البعض تتعلق بالخطاب، هناك ما يسمي بخطاب السّيف القائم علي التهديد والترهيب والوعيد وهناك خطاب لم يتحرر من الديماغوجية والكذب السياسي وقمع الحريات الفردية وحرية التعبير، عاشت الأمة تجربة قاسية جدا بسبب تدهور المناخ الفكري سمّاها برهان غليون بـ: "اغتيال العقل" بسبب ضيق الأفق واليأس والقنوط من كل تغيير، فاين المشكلة إذن؟ هل هي في المثقف الذي يجب عليه أن ينفض عنه وعن أمته الغبار؟ أم في رجل السياسة الذي يجب ان يتحرر من الذيلية ومن القابلية للاستعمار؟
لم تعد قراءة التاريخ قراءة فاحصة، وهي قراءة تتصل بالهوية، فجميع الدول وبالخصوص العربية منها محاصرة اليوم بعدة عقد، أخطرها عقدة التعايش مع الآخر والتحاور معه لإحداث السلام، حتى أحزابها ومثقفيها لم يتناولوا بالتشريح الأسباب التي أدت إلى تأخرهم عن الركب الحضاري في الوقت الذي سيطرت فيه بلدان أوروبية على منافذ البحر الأبيض المتوسط، إن التعنت الفكري وراء الأحداث الذي عاشتها بعض الدول التي حولت الخلاف "من الرأس إلى اليد" عندما تفرق أبناء البلد الواحد وانقسم كل طرف إلى مهاجم ومدافع في أن واحد مثلما حدث في الجزائر و تونس ومصر و ليبيا والعراق وسوريا التي ما تزال تعيش الصراعات بعد أن أكاحت بالنظام الدكتاتوري الذي أحدثه بشار الأسد، نشب الاقتتال ودبّت الفرقة، وتقطعت اللحمة، بحيث لم يعد أي خيط يربط بينهم، إن التعددية الفكرية لم تخلق حالة حوارية عقلانية كما يقول بعض المفكرين، الذين يرون أن الاختلاف سُنّةٌ، وجعلوا من الحوار علاجًا للتخلص من الأزمات، بل أصبحوا يؤمنون بأن التغيير أمر في حكم المستحيل، من أجل أن يظل الحال على ما هو عليه، يقول المؤرخ الجزائر محمد الميلي رحمه الله: "من الخطأ أن نتصور بأن ظواهر التطرف والإرهاب التي يعرفها هذا البلد أو ذاك، ناتجة فقط عن التحولات الداخلية للبلد المعني، بل إنها شديدة الصلة أيضا بالشمولية العالمية التي تؤدي إلى القضاء على الهويات، ومن ثم الانفصال عن التاريخ أو فك الارتباط به".
لقد وضع المؤرخ الجزائري محمد الميلي المثقف العربي على طاولة التشريح، ذلك المثقف الذي تعرض لنار مزدوجة: " سوط الحاكم وتكفير المفتي"، هذه النار أوقفت كل مبادرة فكرية للتجاوب مع المتغيرات، فأصبح المثقف والمفكر يلوذان بالصمت أو يسايران نفاقا ما يقوله علماء البلاط والمفتون، في حين لم بتغير شيء، يفهم من كلامه أنه يُحَمِّلُ "المثقف العربي " مسؤولية ما يحدث بعد أن وضعه على طاولة التشريح، ذلك المثقف الذي تعرض لنار مزدوجة: " سوط الحاكم وتكفير المفتي"، هذه النار أوقفت كل مبادرة فكرية للتجاوب مع المتغيرات، فأصبح المثقف والمفكر يلوذان بالصمت أو يسايران نفاقا ما يقوله علماء البلاط والمفتون (أصحاب الفتاوي)، والدليل على ذلك نجد الأحزاب القوية اليوم ومع بداية السنة الجديدة (2025) تغرق سفينتها وقواعدها النضالية في حركات احتجاجية كما يحدث الأن في الجزائر وانتفاضة المعارضة داخل الحزب الحاكم في البلاد "جبهة التحرير الوطني" ومطالبة أمينه العام بالرحيل، وكذلك ما يحدث في تونس وفي البلاد الأخرى كسوريا، وتعنت السلطة تجاه الإسلاميين ومحاصرتهم والتضييق عليهم واعتقالهم، فقد ظلت بعض الدول تعاني من حالة احتراب داخلي ناشبة بين السلطات الحاكمة التي لا تريد التخلي عن كراسيها وسلطانها، لذلك فهي تسلك العنف سبيلا إليه، فتشعرهم بالضياع والعبثية وانسداد الأفق، ولعل ما يحدث الآن من تمرد شباني ومواقف الرفض وتصاعد حركات التطرف والتعصب الديني والسياسي سببه انهيار النظم، التي كانت سببا في تراجع مؤشر الثقة في كل المؤسسات وتراجع الضمائر بدورها كلما وقفت متفرجة على ما يحدث من أزمات، والتي تضع العالم كله أمام أخطار شاملة.
الحِوَارُ بات حتمية لمعرفة الآخر وفَهْمِهِ
ما يمكن استنتاجه هو أن الإرهاب ما زال يحصد أرواح البشر، وقضايا تتعلق بالتعذيب، ولكن لنتساءل من وراء تحريك رياح العنف ومعظم الإسلاميين اليوم هم داخل السجون والمعتقلات؟، سواء في تونس أو في الجزائر، فمسلسل الاعتقالات في الجزائر متواصل وهناك معتقلين داخل السجون لمدة تزيد عن 32 سنة مسّت شريحة واسعة من النشطاء السياسيين وأصحاب الرأي، بعضهم اليوم مضربون عن الطعام وحتي الإعلاميين مستهم عمليات القمع من قبل السلطة، وفي تونس قادة أحزاب لا زالوا يقبعون وراء القضبان الحديدية (راشد الغنوشي وأنصاره) وحركات احتجاجية هنا وهناك تزامنا مع الذكرى الـ: 14 للثورة التونسية وأخرون في البلاد الأخرى، وعن ماذا نتحدث؟ هل نتكلم عن الإرهاب المسلح؟ أم الإرهاب الفكري؟ وهل نتكلم عن السلم أم نتحدث السلم المسلح؟ ومن هم المجرمون الحقيقيون الذين يخططون لقتل الأبرياء وتدمير العقول المفكرة؟، فالأنظمة التي وضعت المفكر والمثقف جانبا وفي آخر الصفوف، تخشى اليوم حتى من اتصالها بالأخر وكيفية التواصل معه، أي ممارسة "الحوار" مع الآخر والاعتراف به كمحاور، بل تقف معه " ندًّا للنَدّ " رغم ما يكون بينهما من اختلاف ومغايرة، هذان العنصران (الاختلاف والمغايرة) كما يقول محمد الميلي هما اللذان يبرزان أهمية حوار طرف مع آخر، فكونه مغايرا للآخر، هو الذي يجعله يسهم في تشكيل الآخر ويحرره من كل اشكال الهيمنة ومن ثمّ يخرج بحل جديد وممكن.
المثقف وحتى السياسي اليوم يبحث عن طريقة تخلصه من مُرَكَّبِ النقص ليعيد صياغة التاريخ ورواسبه، ويعيد النظر في المكونات الأساسية للهوية، من ثمّ يعيد النظر في ذاته، ويحاول كيف يحررها ويستعيدها من جديد بعد أن يتخلص من التبعية والذيلية وكذلك دراسة الواقع من كل الزوايا (الجيوسياسية، الثقافية، الإجتماعية والإقتصادية)، حتى يتمكن من تغيير قانون الغاب الذي فرضته السلطة والأنظمة الاستبدادية التي أفقرت شعوب العالم وتركت التصحر يجتاح ربوعها الخضراء فاقتلعت أشجارها وعاثت فيها فسادا، ومنها النظام السوري وما أحدثه بشار الأسد من فساد وقمع، والشعب اليوم يعمل على ترقيع ما تم تخريبه، وإزالة بقايا الردم والانهيار الذي لحق بالبلاد، ورسم خريطة جديدة لنهوض سوريا واستعادة مجدها الذي عرفته في العقود الماضية، وإعادته إلى ما كان عليه، في محاولة منها إبطال مقولة: " لا يصلح العطار ما أفسده الدهر" ويمكن القول أن الانحطاط السياسي الذي بلغته الأنظمة العربية، وما ينتظرها اليوم من ضرورة تصحيح ما يمكن تصحيحه، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه يجعل المهمة صعبة وشاقة وهي بحاجة إلى نَفَسٍ طويل، ونقف هنا مع برهان غليون بأن الأزمة أعمق من ذلك، وهي ليست مرتبطة بزعيم ما أو نظام معين، فانحباس كل تقدم اجتماعي وسياس هو أكبر دليل علي أن الأزمة تتجاوز السطح إلى العمق.
إذن، لاشك أن الحِوَارُ ضروري لمعرفة الآخر وفهمه، طالما يوجد اختلاف بين الطرفين، فكرا وإيديولوجية ومذهبا وعقيدة، كما أن الحوار ضروري بغية الاستفادة مما لديه من أفكار وتجارب تساعد في تحقيق التعايش، وتغيير الواقع وتحويله للاتجاه الذي يرضي الجميع ويحقق المصلحة العامة، مشكلتنا نحن المسلمون أننا لا نقبل بالحوار، لأننا ننظر للآخر بنصف عين، ونعتقد أنه أقل منّا مرتبة، فوقفنا جامدين أمام التحولات التي يشهدها العالم، إن التعصب الفكري والعقائدي وحده يولد الخلافات بين البشر ويقود إلى انقسامات فيما بينهم، ليس بين مجتمع مسلم وآخر غير مسلم، بل حتى بين المسلمين أنفسهم، إن حاجة الفكر اليوم كما يقول برهان غليون إلي أن يعيد فحص مفاهيمه كخطوة أولي علي طريق إعادة ـاسيس نفسه كفكر فاعل وإيجابي، اي انه لا يستثني حقبة من حقب تاريخه فلا يمحوها كما يفعل "الانقلابين"، هكذا يمكن لهذا الفكر أن يتجاوز زمن الفتن والحروب.
***
ورقة علجية عيش - الجزائر