آراء

آمنة المسلمي: رحلة في التاريخ الفلسطيني (1)

عزيزي القارئ في ظلّ الظروف التي يعيشها العالم والحرب القائمة بين فلسطين والكيان المحتل، أريد أن أحدثك قليلاً عن تاريخ فلسطين، لا ليس التاريخ الذي يجول بخاطرك الآن بينما تقرأ هذه السطور، بل التاريخ المخفي والذي لا يعلمه إلا القلّة، وأكاد أجزم أنك لم تعر اهتماماً بالغاً للقضية إلا بعد أحداث حي الشيخ جرّاح سنة 2021 أو أحداث السابع من أكتوبر 2024.

حسناً قبل كل شي أريدك أن تتجرد من كل الماديات المعيقة لسفرنا، فأنت ستذهب معي في رحلة زمنية روحية لمعرفة التاريخ الحقيقي، دع روحك تحلق معي في رحلة تاريخية فريدة من نوعها.

نحن الآن في إحدى دول أوروبا الشرقية في ثمانينات القرن التاسع عشر، لا ليست أوروبا التي يتم الترويج بأنها بلاد حقوق الإنسان والحريات، البلاد المتحضرة التي أخرجت دول إفريقيا من البربرية والهمجية وأدخلتهم طور الإنسانية كما تدعي، بل أوروبا المتوحشة الظالمة والعنصرية أوروبا كما لم تعهدها من قبل، انظر هناك هل ترى أولئك الرجال الذين يتم الاعتداء عليهم دون شفقة أو رحمة؟ يُضرَبُون بالنِّعال على وجوههم وبطونهم من قبل الروس؟ أظن أنه يجول ببالك أنهم قد فعلوا أمراً شنيعاً كي يُضربوا ويُعاقبوا بتلك الطريقة؟ أريد أن أخبرك أنه تم الاعتداء عليهم فقط لأنهم يهود، هؤلاء هم يهود أوروبا!

نعم نعم اليهود الذين أصبحوا الأطفال المدللين لأوروبا والولايات المتحدة في عصرنا كانوا قديماً يُقتلون ويتم التنكيل بهم بأبشع الطُرق بل أُقيمت العديد من المجازر في روسيا وغيرها من الدول، قُتل فيها عدد كبير من اليهود، لكن الكراهية ضد اليهود تعود لأقدم من ذلك بكثير، تقريباً منذ ظهور محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال مروراً بعزل اليهود في أحياء منزوية في القرون الوسطى في أوروبا المسيحية، إلى حين ظهور السامية وهي حركة معادية لليهود، ومع تزايد التنكيل باليهود وبقائهم مشردين في العالم، تأسست الصهيونية كفكر إيديولوجي على يد الصحفي النمساوي اليهودي "ثيودور هرتزل" وتدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود، هذا موجز لتاريخ اليهود في أوروبا.

نحن الآن في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، فترة تشكل الأحلاف العسكرية حسب المصالح التي تجمع بين الدول، فظهر حلف الوفاق والحلف الثلاثي، وبعد مدة من بداية الحرب انضمت الإمبراطورية العثمانية لساحة المعركة وكانت في صف ألمانيا ولكن لسوء حظها انضمت للطرف الخاطئ فمع خسارة ألمانيا الساحقة في الحرب وميل الكفة لحلف الوفاق بدأت الإمبراطورية العثمانية في خسارة أراضيها الواحدة تلو الأخرى، ولم يكن في وسع الخليفة فعل أي شيء وبالتالي بدأت الدول العربية الموالية للإمبراطورية في التخلي عنه.

ها نحن الآن نحلق عبر القارات كما حلقنا قبل قليل عبر الزمن، فكانت وجهتنا القارة الإفريقيّة وتحديداً مصر، قصر السفير البريطاني في فترة الحرب الأولى السِّير "هنري مكماهون" ها هو يروح ويجيء أمام ناظريك ضاماً يداه إلى الخلف يبدو عليه أنه متوتر بعض الشيء وينتظر أمراً هاماّ، أُريدك أن تغوص في أفكاره وتعرف ما يجولُ بخاطره، هل وجدت صعوبة في ذلك؟ حسناً لا عليك إنها تجربتك الأولى، دعني أخبرك ما يجول بخاطره وما يخطط له هذا الرجل، إنه ينتظر شخصاً يدعى "رونالد ستروس " السكرتير الشرقي للبعثة البريطانية المكلف بنقل المراسلات بين "مكماهون" السفير البريطاني والشريف "حسين بن علي "ملك الحجاز، حيث قام السكرتير بأربع رحلات إلى الحجاز كما قام بترجمة رسائل الشريف "حسين" للسفير، والآن "مكماهون" ينتظر الرسالة التي ستحسم كل شيء. أرى أنك تتساءل عن موضوع المراسلات وعن العلاقة الغريبة التي تجمع بين سفير بريطاني وملك الحجاز، تمهل لحظة وستفهم كل شيء.

أخيرا وصل "رونالد" إلى قصر السفير، قدّم له الرسالة المترجمة وطلب الإنصراف، فتحها "مكماهون" وقلبه يرتجف من الردّ، فجأة اتسعت عيناه وفغر فاه مبتسماً، أخيراً وافق "الشريف حسين" على الطلب، فمنذ مدة طلب السفير مساندة العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية مقابل وعد منهم باستقلال الجزء العربي الأسيوي عن الإمبراطورية العثمانية والاعتراف به كدولة عربية تحت قيادة" الشريف حسين"

.منذ البداية كان يدرك السفير البريطاني أن ملك الحجاز لن يفّوت على نفسه فرصة كهذه، فهو يحلم بإنشاء دولة عربية كبرى مستقلة عن العثمانيين، حيث أن علاقته بهم كانت سيئة، فالإمبراطوريّة العثمانية كانت منحازة بعض الشيء للأتراك بالإضافة لمصادرتها الأملاك والأراضي علاوة على فرضها التجنيد الإجباري خلال فترة الحرب العالمية الأولى مما أدّى إلى توتر العلاقة بين العرب والأتراك، لذلك حرصت بريطانيا على استغلال الوضع وجذب العرب إليها؛ وفي عام 1916 اندلعت الثورة العربية الكبرى بعد أن أطلق "الشريف حسين "رصاصة من شرفة قصره و شارك معه ضابط الاستخبارات البريطاني "لورانس "الذي اشتهر" بلورانس العرب " وحققت انتصارات وأنهت بذلك الوجود العثماني في الحجاز والشام وصولاً إلى تأسيس الدولة العربية في سوريا أولاً ثم في العراق والأردن، وبالرغم من وعود بريطانيا للعرب بتكوين الدولة العربية إلا أنها قد نقضت وعدها بعد أن أَجرت اتفاقيات سريّة مع فرنسا وروسيا تم بمقتضاها اقتسام أراضي الدولة العثمانية بما فيها البلاد العربية، ثم بعد ذلك انفردت بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سرية سميت باتفاقية سايكس بيكو (1916) نسبة إلى كل من المندوب البريطاني" مارك سايكس" والمندوب الفرنسي "فرانسوا نزلجورج بيكو"، وبموجب هذه الاتفاقية تقاسمت فرنسا وبريطانيا البلدان العربية وأُخضعت كل مناطقها للاستعمار تحت اسم الانتداب، وفي نفس السنة أعلنت بريطانيا وعد بلفور المشؤوم الذي دعى إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين الصادر في الثاني من شهر نوفمبر سنة 1917.

و قد أرسل هذا الوعد وزير خارجية المملكة المتحدة "أرثر جيمس بلفور "إلى اللورد "ليونيل والتر دي روتشيلد " وهو أحد أبرز الوجوه في المجتمع اليهودي البريطاني.

و بعد نهاية الحرب الأولى وانتصار حلف الوفاق وانهيار دول الحلف الثلاثي تم توقيع اتفاقيات قاسية ضده، وكانت أيضاً بداية نهاية الدولة العثمانية نتيجة تهور حاكمها بانضمامه للحرب فإنه وضع المشرق العربي في براثن بريطانيا وفرنسا.

وفي مؤتمر فرساي للسلام مُثّل الشريف" حسين" ابنه " فيصل "الذي رفض المصادقة على معاهدة فرساي رافضاً بذلك الانتداب على سوريا وفلسطين والعراق من قبل فرنسا وبريطانيا.

و لكن في الأخير وضعت منطقة المشرق العربي تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني.

***

آمنة المسلمي

 

في المثقف اليوم