آراء

غريب دوحي: لعنة العراق

السير آرنولد ولسن قطب الاستعمار البريطاني الكبير الذي كان يعارض استقلال العراق وتأسيس الحكم الوطني فيه والذي اصبح بمنصب وكيل الحاكم المدني العام فيه بعد الإحتلال البريطاني ذكر في كتابه المشهور (ولاءات بلاد ما بين النهرين) بمناسبة وفاة الجنرال مود ما يلي: وكان مثله كمثل الاسكندر الكبير توفي في بابل سنة 323 ق.م. والأمبراطور الروماني (جوليان) الذي مات سامراء سنة 363 م حيث إنه استولى على أرض العراق الناكرة للجميل فأصبح فريسة لها..).

ايها (السير) لو كنت حاضراً بيننا الآن لقلنا لك ما هو الجميل الذي قدمه هؤلاء لبلاد الرافدين؟ إنهم دنسوا الأرض وعاثوا في الأرض فساداً لهذا رفضتهم الأرض وحاربتهم الأقدار فسقطوا صرعى على هذه الأرض الوفية لإبناءها ومحبيها وعشاقها، ولقلنا ولقلنا الشيء الكثير لكنك سقطت أنت الآخر صريعاً عندما تطوعت في سلاح الجو البريطاني إثناء الحرب العالمية الثانية وسقطت بك الطائرة قي سماء لندن فتحولت إلى رماد منثور.

فكل العالم يعرف إن بلاد النهرين هي هذه الأرض المباركة والتي أمتدت حضارتها في طول التاريخ وعرضه وذكر سهلها الرسوبي الخصيب في التوراة بأسم (سهل شنعار) وهي بلاد بابل وآشور وموطن نوح والنبي يونس ومسقط رأس إبراهيم الخليل حيث ولد في مدينة (إور) وهي المكان الذي أنشأ نبوخذنصر فيه الجنائن المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع، وهي الأرض التي يجري فيها الفرات ودجلة الذي ورد أسمه في التوراة بأسم (حديقيل) ويعني هذا الاسم (السهم) لسرعة جريانه، وبعد هذا كله فهي تضم بغداد عاصمة البلاد ومدينة الأف ليلة وليلة، وكعبة العلم والمعرفة طوال العصر العباسي الذي أمتد أكثر (500) سنة.

لقد جابت جيوش الأسكندر الكبير الأرض غرباً وشرقاً حتى دخل بلاد الهند ووصل إلى تخوم الصين ثم عاد إدارجه إلى بابل وأتخذها عاصمة لإمبراطوريته حيث أختارها لإنها كانت تضاهي (روما) في جمالها وعظمتها وكان إحتلاله عام 331 ق.م.

توفي الإسكندر في بابل إلا إن الروايات التاريخية اليونانية تختلف في سبب وفاته فمنها من قال إنه مات مسموماً من قبل رفاقه إثناء حفلة للشرب، إلا إن المصادر البابلية تقول إنه كانة يشكو من داء (البرداء) وهو (الملاريا) حيث أخذت الحمى تدب في أوصاله بدون إنقطاع وتذكر هذه الروايات إنه كان يكثر من الذهاب إلى نهر الفرات لغرض الإستحمام في مياهه ولكن دون جدوى حيث أخذت درجة حرارة جسمه في الإرتفاع الشديد حتى فقد القدرة على الحركة والكلام وكانت وفاته عام 323 ق.م. وقد أكدت المصادر اليونانية ذلك حين ذكرت بإن سبب وفاة الأسكندر هي إنه تعرض إلى لدغة بعوضة سببت إصابته بمرض الملاريا ولم يتعرض إلى مؤامرة – بحسب ما نسميه اليوم بنظرية المؤامرة.

وهكذا مات أعظم فاتح في التاريخ القديم بلدغة بعوضة (بابلية) باسلة هدت ذلك الجسد الشبابي المفتول العضلات وجعلته جثة هامدة.

بعد إحتلاله لبابل قال الأسكندر (إن الدخول إلى بابل سهل ولكن الخروج منها صعب...) فخرج منها محمولاً في تابوت من ذهب، لقد أوصى قبل وفاته  بأن يكفن ثم يوضع في تابوت من ذهب ويدفن في الأسكندرية وكان له ما أراد.

فاتح أخر هذه المرة رومي الوجه واليد واللسان غزا بلاد الرافدين هو (يولياس) كما يسميه الرومان و(يوليان) كما نسميه نحن عاش بين 331 – 363 م وهو أبن أخت الإمبراطور قسطنطين الكبير أول إمبراطور روماني أعتنق المحسيحية، اصبح (يوليوس) إمبراطوراً عام 361 م إلا إنه جحد المسيحية وشجع الوثنية فسماه الروم (يوليوس) الجاحد أو المرتد. غزا هذا المرتد بلاد الرافدين عام 363 م بعد أن إجتاز آسيا الصغرى  وبلاد الشام حتى وصل إلى موقع مدينة سامراء الحالي وكان غزه للعراق أبان حكم الملك الفارسي (سابور بن أدشير) وجاء إلى العراق في جيوش لا يحصى عددهم ولم يكن لسابور حيلة في دفعه ولقائه لمفاجأته أياه فانصرف سابور عن اللقاء إلى الحيلة، كما جاء في مروج الذهب للمسعودي (ج.1)، وبينما كان يولياس يسير على ضفاف نهر دجلة وقد تملكه الغرور وأحاطت به العظمة من جميع جوانبه جاءه سهم من يد فارس نصراني كان قد حقد عليه لإرتداده عن المسيحية فاصابه وقد قال إثناء أصابته (... لقد غلبتني أيها الجليلي ترث مع ملك السماء ملك الأرض أيضاً) مشيراً إلى السيد المسيح بهذا القول. ثم لفظ إنفاسه الأخيرة على ضفاف نهر دجلة حيث غسلت موجاته ومياه دجلة تربة بلاد النهرين من دنس هذا الوغد الرومي الجاحد.

وما كان ستانلي مود (1864-1917) بأخر غزاة بلاد ما بين النهرين ولم تكن نهايته أحسن من نهاية من سبقوه من الغزاة كالأسكندر المقدوني ويولياس فقط مزقت الكوليرا امعاءه ونزف ما في جوفه من أحقاد قديمة تجاه شعب وحضارة العراق إنها النهاية الحتمية لكل الغزاة والطامعين من قبله فهكذا انتهى جنكيز خان ونيرون وهولاكو وهتلر وصدام حسين. لقد رسم القدر المحتوم نهاية مود حين دعاه زعماء من يهود بغداد الذين رحبوا بدخول القوات البريطانية الغازية إلى بغداد واعربوا عن فرحهم بزوال الحكم العثماني بسبب الإضطهاد الأتراك لهم خلال فترة حكمهم فأطلقوا على الإنكليزي أسم (أبو ناجي). وقد لبى الجنرال ستانلي مود هذه الدعوة وحضر الإحتفال الذي أقامته مدرسة الليسانس الإسرائيلية في بغداد والذي اقيم في يوم 14/11/1917 وتناول إثناء الحفل هذا قدحاً من الحليب الممزوج مع الشاي ويبدو إنه كان ملوثاً ومن يومها أصيب مود يمرض الهيضة (الكوليرا) ولم يمهله المرض غير أيام معدودة فلفظ أنفاسه الأخيرة في يوم 18/11/1917 بحسب ما جاء في التحقيق الذي أجرته سلطات الإحتلال البريطاني في بغداد.

ستانلي مود صاحب المنشور الشهير الذي إلقته طائرته على أهالي بغداد إثناء الإحتلال قائلاً (حنجن جئنا محررين ولسنا فاتحين). ولكن بعد أيام ظهر زيف ادعاءه. هذا الغازي اعتبر من كبار الفاتحين وكانت سلطات الإحتلال قد جمعت من كبار التجار ووجهاء بغداد مبالغ من المال لإنشاء تمثال له بإعتباره (فاتح بغداد) وقد أقيم التمثال بالقرب من السفارة البريطانية في بغداد وبقى قائماً يتحدى مشاعر العراقيين حتى قيام ثورة 14 تموز المجيدة 1958 حيث هاجته الجماهير الثائرة وأزالته من الوجود.

وهكذا غسلت مياه دجلة والفرات آثار اقدام الغزاة مهما تجبروا وطالت أعمارهم وثقلت وطئتهم على أرضه، فقد أنتهوا بوثبة من وثبات الشعب المباركة.. ولكن هل يتعظ السلطان العثماني أوردغان الأول بدروس التاريخ هذه ويتجنب مصير أسلافه الغزاة والفاتحين الذين سقطوا كالذباب تحت أقدام شعب بلاد ما بين النهرين؟

***

غريب دوحي

في المثقف اليوم