آراء

يحيى علوان: سلمان رشدي.. المورسيكي الذي خَلَعَ "قِفطانَ" اليسار!

لا تُعنى هذه السطور بهجاء سلمان رشدي الشخص، بقدر ما تعنى بهجاء زمنٍ تافهٍ، غيَّبَ كل القيَم والأخلاق.. رغم كل ذلك يظل رشدي ينعقُ معزولاً خارج موجة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني ونضاله العادل.. التي إنضمت إليها كوكبة من الأدباء وكبار الفنانين، حتى من داخل"عرين" هوليود.. !

..........................

+".. لقد تغيَّرَ زمن الحق والقيم.. وعند غياب القيم والمبايء الإنسانية يطفو الفسادُ المبرمجُ، ذوقاً وأخلاقاً وقيماً.. إنه الزمن الهابط.. "(آلان دُنو)

+".. العالم لن يفنى بالقنبلة النووية، بل بسبب الإبتذال والإفراط في التفاهة، التي ستحوِّلُ الواقعَ الى نكتةٍ سخيفة.. "(كارلوس زافون)

+".. أكبر خطأ في الحياة، أنْ تتنازل عن مبادئك.. " (غاندي)

+".. إنَّ التفاهة وحدها، سادتي، هي التي تجني الأرباح هذه الأيام.. " (نيتشه)

(2)

مفهومٌ أنْ تجري تَغيُّرات على قناعات الناس في العيش الواعي.. لكن من الشائن أنْ يبصقَ المرء في البئر الذي شربَ ويشربُ الآخرون منه.. !

كيف إنقلب هذا اليساري إلى أحد دعاة اليمين؟!

سلمان رشدي ليس أول من إنقلب ولن يكون آخرهم ! فقد إنقلب الزمن، والقيم تدحرجت والأخلاق إنهارت. فرأينا وسنرى أعداداً أُخرى من المثقفين يهجرون نصوصاً كتبوها وأعمالاً أبدعوها، وقناعات كانت لهم،كي يلتحقوا بركب اليمين الصاعد والحكام المستبدين.

عَجَبي كيف يستطيع مثقف أمريكي أو بريطاني أن يُديرَ ظهره، بل ويهاجمَ أخيارَ العالم ومثقفيه وحركة الطلبة التي اندفعت لتأييده حين ألمَّت به مصيبة التحريم و"فتوى إباحة دمه" عام 1989.. فوجد نفسه بعدها وحيداً؟!

كان الخيار بين الشجاعة والأخلاق من جهة، والالتحاق بالسلطة وأدواتها من جهة أخرى..

ما فعله سلمان رشدي في إنقلابه المتدحرج نحو تأييد إسرائيل كان إنحيازاً للسلطة، وتخلّياً عن رفاقه القدماء، لأنهم ما عادوا ينفعونه شخصياً !

هل كان هذا الخيار مختبئاً في شخصية الرجل، أم أنه نبع فجأة؟

لا أؤمن بأفكار تنبع فجأة. فالرجل البرجوازي عاد إلى أصوله وانتفض ضد فلسطين كي يحمي نفسه من الخطر الصهيوني. فسقط في الخطيئة التي لا مخرج منها..

هل يمكن مقارنة «طالبان» بالمقاومين الفلسطينيين في غزة؟

هل يمكن مقارنة من يقاتل منذ ثمانية أشهر وظهرهم إلى الحائط وجثثهم مرمية في الشوارع، بعصابات المجرمين

- القاعدة و داعش- التي اقتاتت على الإسلام، لكنها ليست سوى أداة قتل وتدمير وموت؟

بيدَ أن رشدي وأضرابه من المثقفين لا يأبهون بمثل هذه الأسئلة، فهم مشغولون بلعبة المال والسلطة والنجومية. وكل ما عدا ذلك، لا قيمة له ! (إلياس خوري)

لذلك تراهم انقلبوا بخفة وخلعوا ثيابهم القديمة ليجدوا أنفسهم عراة ومكروهين ولا أحبة لهم سوى الحكومات الدكتاتورية في الغرب وإعلامها المناصر للصهيونية..

إنَّ "الوعود الكبرى" لن تتحقّقْ، وستبقى طوال حياتنا دون تحقُّق.. ستظل مشروعاً لنضال طويل الأمد، قد تحلُّ في مجراه خيبات كبرى. لكن هذا ليس نفياً لتلك الوعود، فــ "الوعد والخلاص" لم يصلا، إنهما في الطريق " فقط"!

"حتى إنْ تداعى الجسد، تبقى الإرادةُ حرّةً "، هكذا قال الشاعر الألماني إيريش مُيزام، الذي إغتاله النازيون في معسكر أورانينبورغ. إنها الحرية التي تتسامى على كل المسوّغات والتبريرات اللاحقة لكل فشل سياسي. دائماً ثمة تبريرات : "الوضع السياسي العالمي، النظام (النظام مسؤول دائماً !)" وبالتالي فأن كل إنسان يريد النجاة بالتأقلم مع ضغوط التكيُّف ! ضغوطٌ، يمكن فهمها ! لكن دون نسيان ميلِ الأفراد نحو الإمتثال والطاعة !

إذا كان الأمر كذلك، فهل أن الإرادة حرةٌ حقا بداخل كل فرد؟!

هي جملة لا تُقال لما هو لاحقٌ، مَضَى، إنما تُعنى أساساً بالحاضر.. بما هو واقع.. ففي عالم يفور بــ"العجائب" ترتبك كل الحقائق التي كانت تبدو ثابتة ! فالتحلّي بالشجاعة بعد فوات الأوان، ما هو إلاّ بداية لـ" تطامنٍ وطاعة" جديدين مع الواقع المُعطى ! فتحت هذا "التبرير"يرتكبونَ الخيانة والنذالة بكامل "قيافتهم"!

(3)

+.. " مصيبة عصرنا في إبتذاله ولا شاعريته"، كما قال هيغل.

+.. مَنْ ينبُشُ فينا ما ترسَّبَ مٍنْ صمتٍ، عَجَزنا عن قوله ؟!

في هذا الموضع أستعيدُ من الذاكرة، ما أحسبه يتناسب مع حضور أو غياب القيم..

رالف غوردانو 1923 - 2014 ، الذي أمضى سنوات الحرب العالمية الثانية مع والديه في قبو

(سرداب) عند عائلة بهامبورغ، أخفتهم عن عيون الغستابو والنازيين. بعد نهاية الحرب، قرَّرَ وهو شاب في أواسط العشرينات، أنْ يثأر من النازية بالإنتقال إلى الشطر الشرقي من ألمانيا- تحت السيطرة السوفيتة بعد التحرير.. إنتمى للحزب الشيوعي، درس في معهد الأداب بمدينة لايبزك، الذي تحوَّل إسمه بعد سنوات إلى – معهد يوهانَّس أر بَشَر- ثم دخل المدرسة الحزبية العليا، لتأهيل الكوادر، قيلَ عنه كان مُغرماً بستالين، وهو أمرٌ مألوفٌ حينها.. !

ستبدأ الحرب الباردة بين المعسكرين، ويتأسس حلف الناتو بحجة حماية الغرب من الخطر الشيوعي، وحلف وارشو بعد ذلك.. تمضي السنون على مهلٍ أو عَجَلٍ، سيصبح رالف غوردانو صحفياً وكاتباً معروفاً.. حتى يحلُّ عام 1964 فيهرب إلى ألمانيا الغربية ويجري الترحيب به كمنشق عن النظام الشيوعي في الشرق.. وسيقام له حفل إستقبال في إحدى القاعات الكبرى بجامعة كولونيا.

كانت القاعة تغص بالحضور الرسمي وممثلي الإعلام.. بدأ غوردانو حديثه بهجاء الشيوعية والنظام في ألمانيا الشرقية.. إلخ حتى نهضت من بين الحضور سيدةٌ مُسنة قالت، مشيرة بأصبعها إلى غوردانو :" هّذا، الذي أمامكم هو إبني، أنا أتبرّأ منه لأنه بَصَقَ في الصحنِ الذي أكلَ منه.. !"

..................

لستُ أدري ولا قدرةَ لي على وصف مشاعره وحالته النفسية، ساعةَ رؤيته أُمّه، التي لم يرها منذ قرابة عشر سنوات، وسط القاعة تُعلنُ براءتها منه.. في تناصٍ مع قصيدة مظفر النواب الشهيرة – براءة - !!

مثالٌ آخر، غير بعيدٍ عن الموضوع. أواسط الستينات من القرن المنصرم،كان الجدلُ بين اليمين واليسار محتدماً في ألمانيا الغربية، كما في غيرها من بلدان الغرب. لم يكن "الزواج الكاثوليكي" بين المؤسسة الحاكمة وسلطة الإعلام، مُمثلةً بإحتكار "شبرنغر" قد تمَّ، في إطار التنافس بين المعسكرين، مما إنعكس، محسوباً بدقة في مجال الإعلام !

في تلك الأجواء كانت صحيفة " بِلْدْ" – الصادرة عن إحتكار "شبرنغر" معروفة، ولمّا تزَلْ بشعبويتها وإبتذالها وكانت آنذاك سُبَّةً عند اليساريين والمثقفين – حتى المحافظين منهم -..

في تلك الأجواء، بثَّت إحدى قنوات التلفزوين حواراً جدلياً بين محافظ ويساري، وجَّه فيه الأخير

لزميله في المحاورة تهمة ترديد ما تنشره الصحافة الصفراء - صحيفة"بِلْدْ"- ! وكانت تلك في حينها بمثابة"تجريحٍ"، رَفَعَ فيها المعني دعوى قضائية ضد اليساري بحجة "القذف والتجريح الشخصي".. فما كان من المحكمة إلاّ أن حكمتْ لصالحه ضد اليساري.. !

هكذا يوم لم يكن الإعلام الإحتكاري قد تغوَّل مثلما هو الآن مع اللبرالية الجديدة، وإنصهاره التام مع رأس المال المالي وصنّاع القرار في مُجمَّع الصناعات الحربية.. مما أفضى إلى تسطيح وتسليع كل شيء.. بما في ذلك الآداب والفنون، حسب أدورنو.. ولم تعد هناك قيمٌ جماعية، إلاّ إعلاء شأن "الفردانية"وملحقاتها القيمية المبتذلة .. !

***

يحيى علوان

..........................

* الموريسكيون باللغة القشتالية هم مسلموالأندلس الذين أجبروا على الرحيل من بلادهم إلى دول المغرب الكبير بعد أن سيطر الإسبان على شبه الجزيرة الأيبيرية، فبدأ طرد العرب من الأندلس اعتبارا من عام 1609م بقرار من الملك الإسباني فيلبي الثالث. سلمان رشدي يقول أنَّ أصل عائلته يعود الى المورسيكيين، قبل أن ترحل الى الهند.

في المثقف اليوم