آراء
قاسم حسين صالح: انتفاضة تشرين /اكتوبر
هل ستكون خاتمة الانتفاضات في تاريخ العراق السياسي؟
يعد العراق البلد الاول في المنطقة من حيث عدد الانتفاضات فيه. وقبل ان نبدأ باشارات موجزة عنها نشير الى ملاحظتين: هناك نوعان من الانتفاضات، الأول .. ضد المحتل، والثاني ضد نظام الحكم. والثانية.. ان معظم الانتفاضات الشعبية حدثت في جنوب ووسط العراق.
تعود اول تظاهرة شعبية في تاريخ العراق السياسي الحديث الى زمن الحكم العثماني، لسببين: لأن حكم العثمانيين كان قاسيا.. ظالما لاسيما بفرضه ضرائب باهضة. والثاني ان ولاة العثمانيين لم يفهموا سيكولوجية الشخصية العراقية الشعبية التي تأنف الخضوع لسلطة سياسية، وقد جسدتها عشائر الخزاعل وزبيد والمنتفق في تحديهم للقوات العثمانية والأنكليزية، ما اضطر الدولة العثمانية الى اتباع سياسة أخرى بعد أن فشلت سياسة البطش والقوة، لاسيما انتفاضة مفتي بغداد عبد الغني جميل زاده عام 1832 والمذبحة الكبرى ضد اهالي كربلاء سنة 1842 التي راح ضحيتها قرابة 4000 مواطنا من اهالي كربلاء.
وفي زمن الآحتلال البريطاني شهد العراق ثورة (العشرين) اندلعت في (أيار/ مايو 1920م) ضد الاحتلال البريطاني، وسياسة تهنيد العراق، تمهيداً لضمه إلى بريطانيا. تلتها انتفاضات كبرى في 1930 يوم عمد رئيس الوزراء ناجي السويدي الى انهاء خدمات الكثير من البريطانيين فغضب المندوب السامي البريطاني وطلب من الملك فيصل الأول الغاء الأمر.. فألغاه.. ما اضطر ناجي السويدي وكابينة وزارته للاستقالة وتوضيح الأمر للشعب .. فكانت الانتفاضة.. تلتها انتفاضات اخرى اهمها انتفاضة 1948 ضد توقيع العراق معاهدة بورتسموث اصبحت فيها العاصمة بغداد وكانها ساحة حرب، تلتها انتفاضة 1652 شارك فيها الآف المتظاهرين وهم يحملون لافتات تدين الحكومة والأنجليز واحرقوا مكتب الأستعلامات الأمريكي.
كات هذا موجزا بأهم الانتفاضات التي قام بها العراقيون ضد الاحتلال الأجنبي، ونأتي الآن الى موجز بأهم الانتفاضات التي كانت ضد انظمة الحكم، وهما الانتفاضة الشعبانية وانتفاضة تشرين.
في (3 آذار 1991) وبعد خسارة العراق المذلّة للجيش العراقي في غزو الكويت، انتفض العراقيون في معظم المحافاظات (بدأتها البصرة واسقطت السلطة فيها) وحاصروا عددا من المعسكرت بهدف اسقاط النظام الدكتاتوري برئاسة صدام حسين. لكن الانتفاضة، التي سميت بالشعبانية، لأنها وقعت في شهر شعبان بالتقويم الهجري، قضي عليها بسبب قسوة النظام الذي اعتبرها (صفحة الغدر والخيانة). وقد سقطت السلطة في معظم المحافظات، وشهدت بعيني في مدينة الناصرية كيف وضع المتظاهرون اطارت السيارات في رقاب بعثيين واحرقوهم احياء!
انتفاضة تشرين
قل عنها ما شئت.. قل ان بين قادتها من اشترتهم احزاب اسلامية وصاروا مرفهين وباعوا مباديء انتفاضة تشرين، وقل عنها انها (فقاعات) وانهم غوغاء وما شئت من المفردات التي اشاعها اعلاميو السلطة عبر فضائيات طائفية. ومع ذلك فان ما حدث في (الأول من تشرين أول/اكتوبر 2019) كان حدثا سياسيا وجماهيريا غير مسبوق في تاريخ العراق السياسي. ففي هذا اليوم انطلقت بالمحافظات الوسطى والجنوبية تظاهرات فاجأت السلطة والشعب والمحللين السياسيين الذين كانوا على يقين بأن الأحباط اوصل العراقيين الى اليأس والعجز من اصلاح الحال. وفاجأت ايضا علماء النفس والاجتماع بما يدهشهم.. بل أنها خطّات نظرية في علم النفس تقول:اذا اصيب الانسان بالإحباط وحاول وحاول ولم ينجح، فأن تكرار حالات الخذلان والخيبات توصله الى العجز والاستسلام.. فأطاح بها جميعها شباب ادهشوا العرب والعالم!.
وأكدت الأحداث ان هذا الحراك كان عفويا، إذ لم يُعلن أيّ حزب أو زعيم سياسي أو ديني دعمه له، واعتبر سابقةً ما حدثت في تاريخ العراق السياسي.. من حيث زخمه وحجمه وما احدثه من رعب في السلطة اضطرها الى استخدام القوة المفرطة، ادانها الرأي العام العالمي في حينه.
وخلال خمسة أيام، بلغ عدد الضحايا (110) شهيدا، ليسجل يوم الخميس (الثالث من الأيام الخمسة) اليوم الأكثر دموية في مواجهات عنيفة غير مسبوقة بين القوات الامنية ومتظاهرين يطالبون برحيل الفاسدين وتأمين فرص عمل للشباب استدعى الحكومة الى اعلان الانذار جيم.
تساؤلات.. دون اجابات!
في العام (2022) تساءلنا بالنص:
ما الذي حصل لانتفاضة.. ثورة تشرين؟ وهل صحيح ان بين قادتها من باع نفسه للسلطة؟ وهل.. دوافعها، جوهرها، باقية في ضمائر الناس؟، وهل سيأتي يوم يحاكم فيه قتلة فاشيون؟ وهل ستعود الانتفاضة الثورة بعد ان صار مصير الناس تتحكم به في السابق قوتان (التيار والأطار) كلاهما لا يصلح لحكم العراق؟
ونعيد الآن (2023) نفس التساؤلات، مضيفين لها تساؤلا (لغزا): ان قوة سياسية (التيار الصدري) حصدت المقاعد الأكبر في البرلمان.. تتنازل عن كل مكتسباتها السياسية لخصمها؟!.. فيخلوا له الجو.. ويبيض ويصفر و يحلو! ويستولي حتى على جامعات عراقية!؟
شهادة .. للتاريخ والأجيال
كنت قد عايشت انتفاضة تشرين /اكتوبر 2019 في ساحة التحرير بالعاصمة بغداد. كانت الساحة وشارع السعدون تغص بعشرات الآف المتظاهرين، معظمهم شباب وبنات وصبايا وطلبة جامعات.. ونساء جئن بتنانيرهن يخبزن الخبز ويوزعنه مجانا!، وكسبة وفلاحين وشيوخ عشائر وأكاديميين، توزعوا على خيم متنوعة، واحتلوا بناية عالية مهجورة كانت تسمى (المطعم التركي) ومنحوها اسم (جبل أحد) تزين واجهاته شعارات (نريد وطن)، (نازل آخذ حقي).. وصور شهداء وأعلام عراقية.
ولأن الباحث العلمي عليه ان يكون في ميدان الحدث ليوثقه كما حصل، فأنني تابعتها من البداية. وخلال خمسة أيام، وبحسب الآرقام الرسمية لوزارة الداخلية في 6 تشرين/اكتوبر فان عدد القتلى بلغ 110 وتجاوز عدد المصابين 6100 جريحا حتى الرابع عشر من تشرين اول. وكان يوم الخميس (الثالث من الأيام الخمسة الأولى للانتفاضة) هو الأكثر دموية في مواجهات عنيفة غير مسبوقة بين المحتجين والقوات الامنية، حيث امتدت التظاهرات التي تطالب برحيل الفاسدين وتأمين فرص عمل للشباب الى المدن الجنوبية ما استدعى الحكومة الى اعلان الانذار جيم، وفرض حظر للتجول في عدد من المدن، وإغلاق العديد من الطرق المؤدية من الشمال والشمال الشرقي إلى العاصمة وإرسال تعزيزات إلى شرق بغداد، وقيام القوى الامنية وقوات مكافحة الشغب باستخدام الماء الحار والغاز المسيل للدموع والرصاص الحي.. كان نتيجته سقوط (63) قتيلا في بغداد و (21) في ذي قار تليهما: الديوانية، النجف، كربلاء، وديالى.. باستثناء البصرة التي لم تحدث فيها اصابات.
وفي مساء اليوم نفسه، الخميس (الثالث من تشرين أول)، توجّه رئيس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي، بخطاب متلفز بُثّ على وقع أصوات الطلقات الناريّة التي يُسمع دويّها في أنحاء بغداد، دافع فيه عن إنجازات حكومته وإدارته للأزمة الحاليّة، مطالبًا بمنحه فترة زمنيّة لتنفيذ برنامجه، ووصف ما يجري بأنه (تدمير للدولة).
ومع ان الحكومة اعلنت حظر التجوال وقطع خدمات الأنترنت فان المتظاهرين وصلوا العاصمة بغداد على متن شاحنات حاملين اعلاما عراقية واخرى دينية معظمها يحمل اسم الامام (الحسين) ويهتفون (بالروح بالدم نفديك ياعراق).
وبرغم هذا الرعب، وبرغم هذا البطش غير المسبوق في تاريخ العراق ضد متظاهرين سلميين يحملون علم العراق، فأن المحتجّين توجهوا نحو جسر الجمهوريّة حيث ضربت القوّات الأمنيّة طوقاً مشدّداً عليه خوفا من اقتحامهم الخضراء.
كان استخدام السلطة القمع المفرط ضد المتظاهرين، ونزول قوات سنوات والمليشيات ووجود القناصين على سطوح العمارات قد ادى الى القضاء على التظاهرات ورفع حظر التجوال وقيام رئيس مجلس الوزراء السيد عادل عبد المهدي بالقاء خطاب موجه للشعب مساء الأربعاء التاسع من تشرين اول(2019)، وصفناه في حينه بأنه خلطة من تناقضات في طبخة لا تؤكل، أكثرها مرارة انه اعلن الحداد على شهداء قتل معظمهم برصاص قوات هو قائدها، وتكريمه لقوات امنية بينهم قتلة ايضا!.. واعلانه للشعب العراقي بانه سيحيل فاسدين كبار خلال ساعات ولم يفعلها. ولم يأتي على قطع الأنترنت، ولم يشجب الهجوم على فضائيات والتجاوز على حرية التعبير التي كفلها الدستور. وصيغ خطابه ليفسره البعض بانه انحياز للشعب، ويفسره آخرون بأنه مضطر للوعود ليمتص غضب الشارع، ويفسره موقف ثالث بأنه تنازل تكتيكي.
وفي خطبة الجمعة (11 تشرين اول 2019)، حمّلت المرجعية الدينية على لسان الشيخ عبد المهدي الكربلائي، الحكومة العراقية مسؤولية اراقة الدماء، وامهلتها مدة اسبوعين لكشف الجناة ومحاسبتهم. ومع ان خطابها هذا يعد الأول من حيث تضمينه تهديدا للحكومة وأحزاب السلطة، فان الرأي العام العراقي، باستطلاع اجريناه في حينه، توزع بين وعود على المرجعية ان تحققها، وبين من وصف الخطاب بانه تخدير و(أبر مورفين)، او محاولة لإنقاذ موقعها بين الناس، وبين من رأى ان دعوتها هذه سوف لن تجد استجابة عملية من الذين يعنيهم الأمر.
كان اهم انجاز حققته انتفاضة تشرين اجبار سلطة القتلة الفاشيين على استقالة حكومة باكملها، ليمنحها اشاعة فضاء شعبي يتنفس هواء عراق نظيف من غازات الطائفية والمذهبية.. فهل ستعود بعد أن عادت غازات الطائفيين والفاشيين تخنق الملايين؟!
ويبقى التساؤل:
هل ستكون انتفاضة تشرين /اكتوبر 2019 هي خاتمة الانتفاضات والثورات ضد نظام قائم على المحاصصة ويعد الأفشل والأفسد على صعيد العالمين العربي والعالمي؟
وبافتراض ان ثوار تشرين الحقيقيين وانصارهم الجدد وقوى التغيير بكل عناوينها انهم قاموا بتظاهرات سلمية في الايام القادمة.. فكيف سيكون تعامل الحكومة معها؟ وبافتراض ان السيد محمد شياع السوداني سيلتزم بحرية التظاهر التي ضمنها الدستور.. فكيف سيكون موقف (الأطار التنسيقي) وتحديدا.. القوتان الفاعلتان فيه؟
***
ا. د. قاسم حسين صالح