آراء
عبد السلام فاروق: عصر "الموزاييك"!
المؤكد أننا نغادر حقبة ما بعد الحداثة فى الفن والأدب! فما هو التيار الثقافى القادم بعد تلك الحقبة؟!
فى الماضي كانت الإجابة تأتى سهلة، وقد سبق تفصيلها فى معامل الموضة الفرنسية، أو أروقة الجامعات الألمانية، أو فى هوليود.. أما اليوم الأمر مختلف؛ إذ أن أصحاب الموضة الثقافية منشغلون عن وضع المعايير وتوليد الرؤى والأفكار لصياغة فلسفة ثقافية جديدة إلى ما هو أهم وأخطر.. فرنسا مشغولة بموجات احتجاج وتمرد تكاد تتطور لحرب أهلية أو ما هو أسوأ، وأمريكا لم يعد أمامها سوى كابوس واحد يهدد وجودها ذاته، وهو الصعود الصينى ومخاوف سقوط الدولار.. وألمانيا منهمكة لقيادة الناتو فى حرب مصيرية مع شريكها الاقتصادى القديم الذى تحول فجأة إلى عدوها الأول؛ روسيا..هكذا فرغت الساحة من صناع الثقافة ورواد الفلسفات الفكرية التى تتحكم فى عقول الناس وأذواقهم وأمزجتهم!..إن ما يبدو فى الأفق أن هناك تيار ثقافى جديد غامض قادم على العالم. فما هو؟ وما جوهره؟
بنظرة شاملة لما يجرى حولنا يمكن القول إن الثقافات العالمية كلها فى طور تحول كبير سيحدث هذه المرة بعيداً عن التحكم الفوقى، أو هيمنة الصوت الواحد ، أو الموضة المفروضة القادمة من الغرب.. إنها أقوى موجات الثقافة على الإطلاق..حيث الشعوب هى صاحبة الصوت الأعلى، ولأنها شعوب وثقافات متعددة، فيمكننى القول بضمير مستريح أننا مقبلون على ما أسميه " حقبة الموزاييك"!
صعود الأقليات
هناك اليوم عالمان..عالم افتراضى سيبرانى تتمدد ألسنته باستمرار حتى يكاد يبتلع الناس جميعهم ويضعهم فى سلة اقتصادية وإعلامية واحدة، بحيث صار العالم كله بالفعل قرية مصغرة هى قرية الإنترنت! ثم هناك العالم الضيق الفردى الأرضى الواقعى، عالمى وعالمك بين جدران أربعة!
إن أول السمات البادية على سطح الواقع اليوم فيما أدعوه أو أدعيه من بدء ظهور حقبة الموزاييك، حيث كل شئ متناقض يلتصق بالمشهد ليكمل الصورة الأكبر، تبرز سمة لا تكاد تخطئها عين الفاحص أو المتابع للأحداث على مر السنوات القليلة الماضية.. سمة صعود الأقليات على اختلاف أنواعها..
ثورات وحركات تمرد نشأت على إثرها أحزاب وطوائف كانت فى السابق أضعف من أن يكون لها تواجد على الساحة، وفى أوروبا استطاعت بعض هذه الأحزاب أن تصل إلى السلطة بمختلف مستوياتها، وبات صعود اليمين المتطرف ظاهرة ملحوظة للكافة. حتى فى أمريكا جاء انتخاب ترامب كدليل على التحول إلى الشعبوية التى خرجت منها حركة تمرد من قلب الجمهورريين هى ما سميت بالحركة الترامبية، عندما انحازت فئة متمردة إلى أفكار ترامب الشعبوية وكادت تفسد المشهد الانتخابى الرئاسي باقتحامها مبنى الكونجرس اعتراضاً على فوز جو بايدن بعرش أمريكا!
فترة جائحة كورونا جاءت لتأخذ بيد الفرق الطبية كأبطال الظل، وهى الفترة التى انتعش فيها العالم الافتراضى من تجارة إليكترونية وتوظيف عن بعد وتواصل إنسانى رقمى! لنكتشف أن عالمنا اللاهث المتسارع المتناحر لا يؤدى بالمجتمع إلا إلى مزيد من الهلاك، وأننا بحاجة للارتداد إلى أسلوب الأجداد القديم الهادئ الوتيرة، وصعدت فى تلك الفترة دعوات العودة للوراء والنوستالجيا نلتمس منها حلولاً لأوبئة العصر الذى أوجدها الإنسان بتهوره وغروره.
حتى فى عالم الحروب رأينا صعود الميليشيات بدءاً من ليبيا ومروراً بسوريا وانتهاء بالجنجويد والفاجنر ..مثل تلك السمة ستشهد تغيراً حتى فى الفلسفات والاستراتيجيات العسكرية لاحقاً.
الغريب فى الأمر أن الفن والأدب انساق مضطراً وراء كل صيحة من هذه الصيحات يحاول اللحاق بها والتفتيش فى جذورها وسبر أغوارها، لكنه يكتشف أنها أسرع منه، وأن الواقع الإنسانى لديه الكثير مما لم يبديه أو يقوله كله بعد!
مملكة وادى السيليكون
انتقل الريموت كونترول اليوم إلى أباطرة وادى السيليكون، وباتت بضع شركات كفيسبوك وجوجل ويوتيوب تتحكم فى أذواق الناس عبر الأثير. بل وتحولهم جميعاً إلى مروجين وموظفين يعملون تحت إمرتهم مجاناً! وفى المقابل بات الفن والأدب رهناً بالأذواق الجديدة التى أثمرها اختلاط الثقافات فى بوتقة التيك توك واليوتيوب والإنستجرام، وأصبح لزاماً على الفن والأدب والإعلام إذا شاءوا الاستمرار والبقاء فى عالم يتحكم فيه الأباطرة الجدد، أن يفهموا أذواق هذا العالم الافتراضى مهما كانت تبدو غريبة أو تافهة أو غير تقليدية.
آخر صيحات العالم السيبرانى طفرة الذكاء الاصطناعى التى يعتبرها البعض مقدمة لعصر جديد بعد عصر الصناعة ثم التقنيات ثم الإنترنت والآن عصر "الإيه آى" أو الذكاء الاصطناعى. وأولى نتائج باكورة هذا النوع من الذكاء أنه استغنى عن وظائف تقليدية ليحل محلها الروبوت؛ حتى أننا رأينا مثل هذا الروبوت يقدم للحجيج طعاماً وحلوى! ومن قبل ذلك انتشر مقطع يبرز كيف انتقمت سيدة من روبوت أنثى حل محلها فى وظيفتها القديمة كممرضة فى إحدى المستشفيات!
هناك ألفاظ ومصطلحات لم تكن لتنتشر بهذه الطريقة لولا السوشيال ميديا؛ كالبراند والتريند والإنفلونسر والفريلانسر وغيرها كثير..وفى خضم هذه المعمعة السيبرانية الكبري تنصهر الأفكار والأذواق والأمزجة والرؤى من الشرق والغرب، ويختلط المشهد الصينى بالمقطع الأمريكى بالصورة الأوروبية بالرقصة الإفريقية بالأغنية اللاتينية حتى نفيق على لوحة ستكتمل يوماً كلوحة من قطع الموزاييك أو الفسيفساء لا يكتمل معناها سوى من تجميع سائر تلك القطع والمنمنمات فى صورتها التامة.
من مراقبين إلى صناع
نحن الآن على أعتاب حقبة يستطيع فيها كل ذى أثر أن يضع بصمته..
إنها الفرصة السانحة لفرار الأسري من سجن الهيمنة الثقافية إلى براح الإبداع الحر من أى قيود أو إملاءات أو تبعية ثقافية. إن الشعوب كلها تستطيع اليوم أن تضع بصمتها الثقافية عبر الأثير لتؤثر على ثقافات تبعد عنها بمئات الأميال. وبعد أن ظللنا لفترات طويلة ننتظر وجبة الفن والأدب والموضة أن تأتينا جاهزة من الغرب، بات سهلاً أن نبادر بالتأثير على الغير حتى وإن كان هذا الغير هو الغرب نفسه.
غير أن تقليدنا للغرب لا يمكن أن يكون بوابتنا للتأثير فيه. ولو أننا ظللنا ندور فى فلكه الهالك فلن نستطيع أن ننتقل من دائرة التأثر إلى دائرة التأثير أو أن نتحول من مشاهدين ومراقبين إلى فاعلين وصناع للمشهد الثقافى العالمى.
مسألة صعود الأقليات، وتغير المزاج العام فى الغرب يبشر بتغير أمزجة الشعوب هناك. وفى هذا دليل على أنهم مستعدون للتأثر بأى فكر جديد مختلف بشرط ألا يكون تافهاً سطحياً، ولا مشرباً باللون الغربي الذى بات موضة قديمة يحاولون انتزاعها من جلودهم. الحل هو أن نقدم لهم أنفسنا كما هى بلا تذويق ولا تشويه. وأن نقدم لهم المزاج الشرقى الرائق بكل ما فيه من سحر الماضي وعبق التاريخ الأصيل. فكما سبق ورأينا كيف ارتد العالم كله إلى حالة من النوستالجيا خلال فترة كورونا، وأن العالم الحديث يحن إلى ماضيه الهادئ الرائق كعلاج لحالة الجنون والصخب والحمى. إنه يحن إلى أخلاقيات الماضى بعد أن غرق حتى أذنيه فى بحر من التناحر والعنف والإباحية والمجون.
كن على ثقة أن ما يطفو على السطح من غثاء التفاهة والسطحية والحماقات التى تملأ فضاءات السوشيال ميديا هى إفرازات طبيعية لتلك الحالة من المخاض التى سينتج عنها ظهور ملامح تلك الحقبة الثقافية الجديدة القادمة. وسوف تنزاح كل تلك التفاهات ليحل محلها مشهد ثقافى ثقيل فخم تشارك فيه حضارات قديمة راسخة كحضارة مصر والعراق وروسيا والصين،كلهم يندمجون فى لوحة ثقافية واحدة جديدة النكهة قديمة الجوهر.
***
عبد السلام فاروق