آراء
عبد السلام فاروق: القوة المهدرة!
أمريكا اليوم ليست كأمريكا الأمس.. الصورة الذهنية لها تغيرت بعد حرب العراق من شرطى إلى قرصان، ومن تمثال الحرية إلى صنم متجبر. ثم انحدرت أكثر لنراها مرتبكة عاجزة أمام وباء كورونا، ومذهولة متفاجئة أمام ثورة الوول ستريت وهجمة أنصار ترامب على مبنى الكونجرس، ثم إذا بها منهزمة اليوم أمام الروس فى أوكرانيا.. هكذا انهارت صورة السوبرمان الأمريكى الهوليودية فى أذهان حلفاء العم سام!
غير أن كل هذه الانهيارات والانحدارات لم تستطع حتى اليوم أن تهز عرش أمريكا الراسخ كقوة عالمية مسيطرة على القرار الدولى..سواء فى الاقتصاد أو السياسة أو حتى على مستوى الحياة الاجتماعية اليومية للشعوب. ذلك أن نجاح أمريكا الأول كان فى قدرتها الفذة على السيطرة على المزاج العالمى من خلال ما أسماه جوزيف ناى بالقوة الناعمة..
أسرار الهيمنة
جوزيف ناي. باحث وأكاديمي بجامعة هارفارد ومستشار سابق لوزير الدفاع الأمريكي على عهد كلينتون، وهو صاحب مصطلح "القوة الناعمة" الذى اشتهر من خلال كتابه المعنون بنفس الاسم.. وفيه يشرح لنا كيف أن أمريكا استطاعت بسط سيطرتها على العالم كقوة أولى من خلال قوتها الناعمة المتمثلة فى السينما والفنون والثقافة والإعلام قبل الخشنة المتمثلة فى أساليب العنف والردع بالسلاح أو التهديد بالعقوبات الاقتصادية.. فيؤكد أن أقل من 20% من وسائل التغيير الناجحة لأمريكا ضد بلدان أخرى تمت من خلال استخدام القوة الخشنة. بينما كانت قواها الناعمة هى السلاح الأقوى لها دائماً..
حدث هذا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرةً؛ إذ يؤكد جوزيف ناى أن انهيار جدار برلين، وذوبان الفروق بين ألمانيا الغربية الرأسمالية والشرقية الاشتراكية لم يحدث إلا بفضل استخدام سلاح القوة الناعمة فقال: (اخترقنا جدار برلين بأفلام السينما قبل زمن طويل من سقوطه عام 1989؛ لأن مطارق الثقافة كانت أقوى من مطارق الحديد!) .. ولعل هذا نفس الذى حدث للاتحاد السوفيتى الذى اغتالته الثقافة الانفتاحية الرأسمالية رغم السياج الصارم الذى ضربته الشيوعية ضد تسرب تلك الثقافة.. معنى هذا أن الماكدونالد والبيبسي والسي إن إن أقوى كثيراً من الباتريوت والهاون والإف 16!
السينما والإعلام والفنون وسائر أدوات الثقافة وآليات الغزو الفكرى جميعها من مكونات القوة الناعمة للبلدان القوية، لكن العجيب أن مؤلف كتاب القوة الناعمة يؤكد أنها كلها ليست هى أقوى أدواتها للسيطرة، وأن السلاح الأقوى فى يد أمريكا هو عامل الهجرة المقننة، أى قدرة أمريكا على جذب العقول المتفوقة من سائر أنحاء البلاد إليها، وأنها كانت تتربع على عرش البلدان الجاذبة لهجرة العقول منذ زمن طويل ولم يباريها فى تلك المكانة سوى بريطانيا! فما الذى حققته هجرة الأفذاذ لأمريكا؟
أول تلك المكاسب وأقواها هو ما حدث من اختراق لسياج الشيوعية المتين المضروب حول الاتحاد السوفيتى أثناء الحرب الباردة الطويلة.. فيؤكد جوزيف ناى أن برامج التبادل الطلابى مع الاتحاد السوفيتى آنذاك مثلت عاملاً حاسماً من عوامل تقويض وتفكيك دول الاتحاد من الداخل؛ إذ كان الطلاب العائدين من تلك البعثات على مدى عقود طويلة يفعلون فعل الفيروسات سريعة الانتشار بحيث استطاعوا فى سنوات قليلة من تغيير مزاج السوفييت كلهم من الخضوع لسجن الاشتراكية إلى البحث عن جنة الرأسمالية والحرية المطلقة التى تعد الناس بها زوراً أو صدقاً!
ثم أن تلك العقول ذاتها أصبحت لبنة رئيسية لتحقيق التفوق التكنولوجى والعلمى والبحثى فى شتى المجالات العسكرية والاقتصادية، ولنا فى فاروق الباز وأحمد زويل عبرة، ولعل نظرة بسيطة فى إحصائيات الحاصلين على نوبل أو المكتشفين والمخترعين الأمريكان على مر السنوات ستؤكد حقيقة أن أغلبهم من المهاجرين الذين انصهروا داخل آلة الصناعة الأمريكية وحولوها إلى آلة جبارة سبقت سائر البلدان بتكنولوجيا صناعات متطورة لا نظير لها.
ولعل أهم ما تحققه الهجرة الكثيفة لأمريكا قدرتها على السيطرة على أجيال قادمة من صغار السن الذين يتربون منذ البداية على الثقافة الأمريكية فيصيرون أول المدافعين عنها فى شتى المحافل!
كيف تحفر هاوية بإبرة؟!
الصبر الطويل والعمل الدؤوب بلا كلل والتربص المكتوم بين طيات الضباب هى طريقة ماكرة مدروسة لتلك القوى المتسللة خلسة عبر قنوات الغزو الثقافى تنتظر اللحظة المناسبة لتلدغ بغتة!
الآن تطورت أدوات التأثير والاختراق الثقافى بعد شيوع السوشيال ميديا وسهولة نقل الصورة والمعلومة المغرضة من خلال قنوات اليوتيوب والتيك توك والفيسبوك، لتزداد قدرة أصحاب الأجندات على الوصول إلى الجميع بضغطة زر؛ ليقوموا بحقن الأذهان بالأكاذيب والأضاليل، وتحريك النفوس بسيل من الشائعات والترهات، بينما الشباب مستسلمون لكل هذه الأجندات الخبيثة استسلام المنوَّمين!
الخوف ليس على هذا الجيل وحده، وإنما أكثر على الأجيال القادمة التى ستنشأ وتتربى على مثل هذا الغثاء المنتشر فى كل مكان وعلى كل شاشة وخشبة مسرح. هناك هاوية يتم حفرها للأجيال القادمة وإن كانت تحفر بهدوء وصبر وأناة ودأب، فسيأتى اليوم لنكتشف أنها غير قابلة للردم.
القوة المفقودة
نظرة سريعة حولك تكفيك لتدرك ما يحدث..
البساط ينسحب من تحت أقدامنا شيئاً فشيئاً.. لم نعد نحن رواد الإعلام فى المنطقة؛ بعد أن سبقتنا قنوات إعلامية أقل عمراً وأضعف تجربة واستطاع غيرنا الوصول للعالمية فيما تأخرنا نحن وانكفأنا على أنفسنا! وحتى مجال السينما لم نعد نحن الأوائل، بعد أن تعددت مهرجانات السينما فى المنطقة وباتت لعبة الإمكانيات المادية ولغة المال تتحدث لتفرض سطوتها، وتصبح السينما المغربية والإيرانية والتركية بديلاً عن السينما المصرية العريقة، بدليل غيابنا عن الجوائز السينمائية لمدة طويلة.
حتى فى الآداب والفنون سبقنا الكثيرون إلى الصدارة، وانزاحت الجوائز الأدبية الكبري لتقع فى حجر دول عربية شابة، وحتى هذه الجوائز انصرفت أغلبها لفائزين من الأدباء غير المصريين!
لم يحدث هذا فجأة، ولم يتم بمنأى عن النخبة المصرية . فالجميع يشاهدون ويراقبون مع عجزهم عن فعل شئ. لقد انتقلت مقاليد القوى الناعمة من مصر إلى غيرها من دول المنطقة. وهذا ينذر بغياب جزء كبير من قدرتها على التأثير ناهيك عن دور الريادة والتفرد.
لفترة طويلة ظلت السينما المصرية هى الرائدة والأغنية المصرية هى السائدة، والإعلام المصرى هو المتصدر، والأدب المصرى هو أدب الجوائز والتميز والتفرد والرصانة، والصحافة المصرية هى المعلم الأول لكل المدارس الصحفية فى المنطقة. حتى جاء الوقت الذى تشوهت فيه تلك الصورة وتم استبدالها بصورة أخرى قاتمة تنحدر فيها القيم وتنسحق الأخلاقيات، ويتم الترويج من خلال السينما والدراما والأغنية لثقافة شعبية فى أدنى حالات الانحطاط والترخص والابتذال!!
مثل هذا الإصرار على الاستمرار فى إضعاف القوى الناعمة لن يؤدى إلا إلى مزيد من انسحاب بساط الريادة والتأثير. ومزيد من قدرة الثقافات الغربية على اختراق العقول والأمزجة وعلى استمالة الأجيال القادمة لتبنى أجندات مغرضة ماكرة تحقق مصالح العدو لا مصالحنا نحن.وتجارب الغرب أثبتت أهمية امتلاك القوة الناعمة لتحقيق التوازن إلى جانب القوى الخشنة ولامتلاك القدرة على التأثير الفعال على الأمزجة والأفكار والعقول.
المؤكد أن تاريخ مصر يشهد على قدرتها على التعافى السريع من أى ضعف يصيبها. ولا شك أننا قد فقدنا قوانا الناعمة أو بعضها، وأننا قادرون على العودة إلى امتلاك أدوات هذه القوة المؤثرة، لاسيما ونحن مائة مليون حافلون بالتنوع وحاملون لميراث حضارة عريقة.. فقط علينا أن نبدأ من حيث انتهى أصحاب الريادة والصدارة فى ميادين العلوم والأداب والإعلام والفنون.
***
عبد السلام فاروق