آراء
رشيد الخيّون: الغَديرُ.. بناء الطَّائفة لا الدَّولة
طُرح العام (2007) يوم «الغدير» عيداً جزئياً بالعراق، فعَطلت بعض المحافظات الدَّوائر (18 ذي الحِجَّة)، وكأنها خارج الدَّولة. عاد اليوم اعتبار «الغدير» رسمياً للدولة كافة، ومعلوم أن مَن لم يتقيد سيكون عاصياً للدولة والدِّين، لأنَّ الغدير أصلٌ، والمقياس هو الإيمان بـ«الولاية»، هذا ما تفصح عنه رسائل الفقهاء، دستور الطَّائفة، وفي «الغدير» التزمتم بالرَّسائل وتركتم الدَّستور.
ثار جدلٌ عقيمٌ في «الغدير»، فلا تسويةً في اختلاف العقائد، بين مَن اعتبره يوم التتّويج الإلهي لعلي بن أبي طالب(اغتيل: 41 هج)، ومَن اعتبر ما قيل في «غدير خم»(10هج) تكريماً، وكثير مِن الصّحابة كرمهم النَّبيّ بالألقاب، لا المقصود ولاية العهد، لذا يبقى «الغدير» يخص طائفةً.
هل العراقيون اليوم أمام بناء دولةٍ أم طائفةٍ؟! وهل دولتهم ذات عقيدةٍ دينيةٍ، فإذا كانت كذلك، فلتعلن دستوريّاً، وبهذا يُعذر البرلمان والحكومة مِن تشريع «الغدير» عيداً. أمّا إذا كان العِراق ديمقراطيّاً تعددياً، فهذا التَّشريع ليس حقَّاً.
إذا كنتم تتصدون لبناء دَولةٍ دستوريَّة، فطريقها واضح، ليست بويهية (352هج) عندما أعلنت ببغداد «الغدير» عيداً (الكامل في التّاريخ)، وليست فاطميَّة (362هج) يوم أُعلن بمصرَ عيداً (المقريزي، اتعاظ الحنفاء) ولا صفويَّة (1501م). يبدو أنّ المعمم البرلمانيّ استحضر كلّ العهود عندما قال: «الغدير عيد لكلِّ العراقيين». قالها ولم يميز بين الأزمنة، وبين برلمان دولة ومنبر حُسينية.
ماذا أنتم فاعلون بالعراق؟ هل تريدونه: بويهياً أم فاطمياً أو صفوياً؟ فكلُّ هؤلاء لا علاقة لهم بصاحب الغدير، غير «إنَّما هذه المذاهب أسبابٌ/ لجذب الدُّنيا إلى الرُّؤساء»(المعريّ، اللزوميات). فكانت أسرتهم مشيدة مِن الذَّهب! مثل تفاخركم بموالاته، ولو خرج لقال عمن توج باسمه: مَن هؤلاء؟!
عليكم تقدير خطورة «الإمامة» التي تلعبون على حبلها، وقد عقم الجدل فيها، وصارت تاريخاً. يقول أحد أهم أساتذة الحوزة الدِّينية بالنَّجف محمَّد رضا المظفر(ت: 1964): «ولا يهمنا مِن بحث الإمامة، في هذه العصور، إثبات أنهم هم الخلفاء الشَّرعيون، وأهل السُّلطة الإلهيّة، فإن ذلك أمر مضى في ذمة التَّاريخ، وليس في إثباته ما يُعيد دورة الزَّمن مِن جديد»(عقائد الإماميَّة). فهؤلاء «إخوان الصَّفا»، قدروا خطورة اللُّعبة فقالوا: «اعلم أنَّ الإمامة هي أيضاً من إحدى أمهات مسائل الخلاف بين العلماء، قد تاه فيها الخائضون إلى حجج شتى، وأكثروا فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين فيها العداوة والبغضاء، وجرت بين طالبيها الحروب والقتال، وأبيحت بسببها الأموال والدّماء، وهي باقية إلى يومنا هذا (الرّابع الهجري)...«(الرِّسالة: 42). بل التّناحر يا إخوان الصّفا مازال مشتعلاً إلى يومنا نحن، كأن الألف عام بيننا وبينكم مرَّ ونحن في الكهفِ ناطرون! هذا، وظل الخلاف يدر ذهباً على تُجاره في الأزمنة كافة «إذ ما سُلَ سيفٌ في الإسلام على قاعدةٍ دينية، مثلما سُلَ على الإمامة في كلِّ زمان»(الملل والنّحل).
إنها عودة التَّناحر بين ميليشيتين: الدَّيلم والأتراك (السَّنة 389هـ) ببغداد، وشأنهما شأن العثمانيين والصَّفويين، يوجهون الطَّائفتين كيف شاءوا، «بالكرخ كانوا ينصبون القباب (وتعلق الثِّياب) للزينة، اليوم الثَّامن عشر مِن ذي الحِجَّةِ، وهو يوم الغدير، فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك، بعد يوم الغدير بثمانية أيام، مثلهم قالوا: هو يوم دخل النَّبيّ، صلى الله عليه سلم، وأبو بكر، رضي الله عنه، الغار» (ذيل تجارب الأمم). فإذا كنتم أهل العِراق فلا تنحو نحويهما: يوم الغدير ويوم الغار! ألم يفيدكم ابن الحَجَّاج(ت: 391هج) وكان على مذهبكم؟ شاهد عيان ذلك النّزاع المذهبيّ، فقال في خير الحاكمين:«خيرهم مَن رأى لباسيّ قد/ رثَّ وبان اختلاله فكسانيَ» (دُرة التَّاج في شعر ابن الحَجَّاج)، فانشدوا الدَّولة الكاسية بالوطنيَّة لا العاريّة بالمذهبيَّة.
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي