آراء
قاسم حسين صالح: بعد واقعتي شارلي وستوكهولم..
هل نحن مقبلون على حرب المعتقدات؟!
في الساعة الحادية عشرة من صباح الاربعاء (7/1/2015) دخل مسلحان مبنى صحيفة (شارلي ايبدو) في باريس وناديا بالاسماء على كادرها بدءا بمديرها وقتلوا اثني عشر شخصا بينهم خمسة من رسامي الكاريكتير كانوا قد نشروا فيها رسوما تسخر من النبي محمد.. وبأقل من عشر دقائق انتهى المشهد الاجرامي الذي وصف بأنه الأكثر دموية في فرنسا منذ اربعين عاما، ولاذ المسلحان بالفرار وهما يهتفان (الله أكبر.. انتقمنا للرسول انتقمنا للنبي محمد).. وانتهت الدراما بقتلهما على ايدي الشرطة الفرنسية في (9/1/2015).
وفي يوم الأحد (11/1/2015) شهدت باريس اضخم مسيرة ادانة وتضامن، قدّرت بملايين يتقدمها رؤساء وممثلو خمسين دولة. وفي (13/ 1/2015) صدر اول عدد من صحيفة (شارلي ايبدو) بعد الحادث بخمس ملايين نسخة بعد ان كان معدل ما تطبعه ستين الفا، و بـ(16) لغة بينها اللغة العربية بعد ان كانت تنشر بست لغات.. تصدرت غلاف العدد صورة للنبي محمد يحمل لافته مكتوبا عليها (أنا شارلي).. مع دمعتين على الخدين.. وقد اعادت نشره صحف يسارية في اوروبا وتركيا فيما تجنبت صحف امريكية ووسائل اعلام مرئية نشر رسوم ذلك العدد.وقد اصرّ القائمون الجدد على مواصلة المجلة نهجها في السخرية من الأديان، فيما استنكر الازهر تلك الرسوم التي وصفها بالخيال المريض، وبانها منفلتة من كل القيود الاخلاقية، وانقسم العالم الى فريقين.. في تظاهرات ومسيرات مؤيدة لنهج (شارلي) واخرى معارضة ومنددة في دول اسلامية.
لم تكن صحيفة شارلي هي اول من تنشر صورة تسخر من النبي محمد، ففي 30 ايلول (سبتمبر) 2005 نشرت صحيفة بولاندس الدانماركية صورا ساخرة للنبي محمد، تبعتها في 10 كانون الثاني 2006 صحيفة (مكازنيت) النرويجية و(دي فيلت) الالمانية وصحف اوربية اخرى باعادة نشر تلك الصور، اثارت غضبا عنيفا تجسّد في احتجاجات شعبية ورسمية كبيرة في العالم الاسلامي.. تبعتها اعمال عنف بينها اشعال النار في مبنى سفارتي الدانمارك والنرويج واحراق القنصلية الدانماركية في بيروت.
كان لتلك الصور هدفان رئيسان، الأول سياسي (رسم رجل ملتحي بعمّة كتب عليها "لا إله إلا الله" وفتيل مربوط بقنبلة).. ما يعني ان الدين الاسلامي دين عنف، والثاني اخلاقي او قيمي تمثله صورة تشير الى ان النبي محمد كان يضطهد النساء.. ما يعني ان الهدفين يفضيان بالتبعية الى مقارنات بين الأنبياء من جهة وبين الأديان من جهة اخرى!. وان ما حدث لشارلي هو البدء باعلان المواجهة الصريحة بين الايمان والالحاد.. قد تفضي الى معارك يسيل فيها الدماء ويسجلها التاريخ بعنوان (حرب الانبياء).
وفي 21/ 7 / 2023 قام شاب من اصل عراقي اسمه (سلوان موميكا) بحرق نسخة من القرآن في العاصمة السويدية ستكوهولم، اتبعها بعد اسبوع بركل نسخة من القرآن بقدمه وحرق العلم العراقي امام السفارة العراقية في استكوهولم.. نجم عنه اقتحام متظاهرين مبنى السفارة السويدية في بغداد وحرق اجزاء منها، وقيام العراق بطرد السفيرة السويدية واستدعاء ممثله في استوكهلم، وتصاعد موجة من الاحتجاجات والغضب الجماهيري في بغداد ومسلمين في مدن سويدية. وقبل (سلوان) قام يميني متطرف دانماركي اسمه (راسموس بالودان) بحرق نسخة من القرآن امام السفارة التركية بالسويد لدوافع وصفت بانها كانت للتنديد بالمفاوضات التي تجريها السويد مع تركيا . ولم تكن الردود العربية الرسمية بمستوى ما وصف بان حرق القرآن يعد جريمة، مع ان الحكومة السويدية وصفت ما قام به سلوان بانه (حرية تعبير).
وللتاريخ فان حرق نسخ من القرآن ليس جديدا بل يعود الى عام 1530، وتكرر الفعل عدة مرات في اثناء الحروب الصليبية، ما يعني ان مسلسل حرق الكتب المقدسة سيستمر.. وانها قد تفضي الى حرب تتوحد مع (حرب الأنبياء) بعنوان اكبرهو.. حرب (المعتقدات).
الأيمان بالعقيدة.. حق ديمقرطي
تعرّف (العقيدة) بأنها المعلومات التي تربط بالعقل ويتقبّلها ويعتقد بها بنحو قطعي يقيني، فتصبح محكمة ومشدودة ومربوطة، لأنها ماخوذة من الفعل (عقد) الذي يعني الاحكام والشد والربط كقولك (عقدت الحبل). ويضيف الفقهاء بان العقيدة الصحيحة هي الثوابت العلمية والعملية التي يجزم ويوقن بها صاحبها. ويرى آخرون ان العقيدة هي ما يعقد عليه الانسان قلبه، ويؤمن به ايمانا جازما، ويتخذه مذهبا ودينا يدين به. ويرى فريق آخر بان العقيدة تعني الايمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرق اليه شك، وانها ما يؤمن به الانسان ويعقد عليه ضميره، وتطمئن اليها نفسه، ويتخذها مذهبا ودينا بغض النظر عن صحتها من عدمها. ويحدثنا التاريخ عن قادة كبار وسياسيين مناضلين قتلوا لأنهم رفضوا التخلي عن معتقداتهم سواء كانت دينية او سياسية.
هذا يعني ثلاث حقائق:
ان ثمانية مليار انسان في عالم اليوم، يتوزعون على عدد لا يحصى من المعتقدات.
ان المعتقدات التي يؤمنون بها، بينها الضد وضده النوعي، مثال ذلك: الأيمان والألحاد.. وان جماهير الضدين قد يصل المليارين.
ان أي حرب تقوم بين الضدين ستكون ضحاياها بالملايين.
المشكلة في.. حرية التعبير
تعد (حرية التعبير) احد اركان الديمقراطية .. وثمة سوء فهم هنا في الخلط بين المقصود بحرية التعبير للصحافة والأعلام في النظام السياسي، وبين حرية الفرد في التعبير.والشرط الأساس هنا يكون بأن لا تتضمن حرية التعبير الأساءة الى معتقد جماعة، حتى وان كنت تراه سخيفا.ما يعني انه لا يحق للمسلم او المسيحي او اليهودي ان يسخر من الهندوس الذين يقدسون البقرة. ولا يحق لأي مؤمن بدين معين ان يسخر من معتقدات مؤمن بدين آخر .
وفي التشخيص السيكولوجي فأن اخطر الأفراد في هذه القضية هم المصابون بـ(الحول العقلي) .. وهو مصطلح ادخلناه في علم النفس العربي يعني ان المصاب به يرى كل ما هو ايجابي في معتقده ويغمض عينيه عما هو سلبي فيه، ويرى كل ما هو سلبي في معتقد الآخر ويغمض عينيه عما هو ايجابي فيه، وأن معتقده هو الصح ومعتقد الآخر خطأ.. ويمكن ان نصف الحول العقلي بأنه مرض الشعوب العربية.
وعليه، فان الضمانة الحقيقية لأن يعيش ثمانية مليار انسان بسلام هو ان تحترم حكومات العالم معتقدات الأديان ولا تسمح بالأساءة لها. وان يكون الحوار العلمي هو الوسيلة للتفاهم .. وبدونه فأن حرب (المعتقدات) قادمة.. وقد يشعلها من يمتلك الذكاء الأصطناعي للسيطرة على الشعوب المأزومة!.
***
أ.د.قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية