نصوص أدبية

سعاد الراعي: المصير

الجزء (3) من رواية الحرز

حين هدأت ضجّة الألم في عروقها، وهي تستند برأسها إلى الوسادة كما لو أنّها تستند إلى آخر ما تبقّى لها من يقين في هذا العالم. سحبت الغطاء حول جسدها النحيل، تلفّه وكأنها تحتمي به من غدر الليل، ثم أغمضت عينيها ببطء يشبه انسحاب الروح إلى صمتها الداخلي. كانت تسمع أنفاسها تتهادَى، تتراجع من فوضى الاضطراب إلى همسٍ متقطّع يوحي بأن جسدها يحاول أن يعقد هدنة قصيرة مع التعب.

غير أنّ يدها لم تفلت القلم؛ ظلّ مربوطًا بكفّها كما لو كان شريانًا من إرادةٍ لا تريد أن تنطفئ. كان القلم سلاحها الوحيد، صديقها الأخير، والنبض الذي تتذكّر به أنّها لا تزال في قيد الصراع. حتى وهي تغفو بين يقظةٍ وسبات، كانت أصابعها تمسّكه بتوتر يشبه اليقظة على حافة الخوف.

تداخل الوعي بالحلم، وتمازج اليأس بالخوف، وومضت في روحها خيوط ضئيلة من أمل لم تعد تعرف مصدره. ربما كان ذلك الأمل آخر ما يتمسّك به الإنسان حين تتكالب عليه الحياة من كل الجهات. تسربت الساعات أو الدقائق، لم تعد قادرة على التمييز، كأنّ الزمن أصبح ماءً يتسرّب بين أصابعها.

وفجأة، اخترق سكون الغرفة انتزاعٌ عنيف لشيء ما من يدها، شعور مباغت جعلها تجفل وترتجّ ارتجافًا كمن سقط في غياهب بئر. فتحت عينيها على عتمة معتمة، وإذا به، هيكل عمّها المقيت، ينهض من الظلّ بوجهٍ غارق في السواد، يدور حول سريرها بقلقٍ وحركةٍ متوترَة توحي بنيّةٍ خبيثة.

أرادت الصراخ. أرادت أن تستنجد بمن يمكن أن يسمعها خلف جدران المستشفى الساكن، لكن صوتها اختفى مثل ريحٍ انطفأت فجأة. حاولت أن تستعيده، خنقت المحاولات حنجرتها، فخرج الصمت يجلّل الموقف برعب أكبر.

قرب وجهه منها، وعيناه تقدحان بما يَشي بما هو آتٍ. مدّ ذراعيه نحوها، يريد حملها كما تُحمل الغنيمة. همست روحها بالرفض قبل أن يهمس فمها، فرفعت يدها لتدفعه، وركلته بكل ما تبقّى فيها من قوة يائسة. لكنها بدت كعصفورة تصفع حجراً.

انقضّ عليها بغلظة، وضرب رأسها بيده الثقيلة ضربة أراد منها أن تطفئ وعيها كما تُطفأ شمعة في ليل بلا رحمة. ترنّح الألم في رأسها، لكن شيئًا ما في أعماقها رفض السقوط، رفض الاستسلام، رفض ذلك المصير الذي يحاول أن يسوقها إليه.

ولأن الروح حين تُحاصَر تُخرج أنيابها، امتدت يدها تحت الغطاء، التقطت القلم كما يلتقط المرء آخر رمحٍ في معركة غير متكافئة. وفي لحظة خاطفة، تلاقت يداها مع حدّ الغضب، فغرست القلم بقوة في وجهه. صرخة ألم غليظة انطلقت منه، وظهر الدم يغلي على خده الأيسر، يشقّ طريقه من الجلد إلى طرف فمه، لينزف بغزارة أربكته ودفعته إلى الترنّح كمن فقد توازنه أمام زلزال داخلي.

اغتنمت اللحظة. دفعت نفسها إلى حافة السرير محاولة الهرب، محاولة النجاة ولو بفرصة ضئيلة. لكن جسدها لم يتجاوز السرير.. رأته ينتزع المسدس من حزامه، بحركة يأس وحقد تفوّقا على الألم الذي سبّبته له.

لم تنتظر روحها سوى ثانية واحدة لتفهم المصير.

انطلقت ثلاث رصاصات كصفعات قدرٍ لا يتردّد.. اخترقت صدرها، شعرت بأن العالم ينكمش حولها، وأن دفء الحياة ينسحب من بين أضلاعها كما ينسحب الضوء من آخر النهار. سقطت فوق فراشها، والدم يلوّن الغطاء بلون الحقيقة الأخيرة.

لكن عينيها ظلّتا مفتوحتين. لم تنكسر. لم تستسلم. ظلت تحدّق في قاتلها بصلابة لا يمتلكها سوى من خاض معركته حتى النفس الأخير. تحدّق فيه وكأنّها تقول: "حتى ولو قتلتني، فقد هزمتك."

اقترب منها، والغضب يعمي ملامحه، والدم المتجلّط على وجهه يزيده وحشية. رفع سلاحه مرّة أخرى، وصوّبه إلى عينيها مباشرة، إلى آخر منفذين تتنفس منهما روحها. وأطلق الرصاصة الأخيرة، كأنّه يحاول أن يطفئ التحدّي قبل أن يبرد.

ثم استدار، تاركًا الغرفة بظلّه المتعجّل، متّجهاً إلى السيارة التي كانت تنتظره، بينما بقيت هي هناك… لا جسدًا وحسب، بل شهادةً على شجاعةٍ لم تُمنحا الحياة، لكنها منحَتها لحظتها الأخيرة.

6

كان صوت انفجار الرصاص مزلزلًا، وجافًّا كحدّ السيف: اهتزّت الجدران الهادئة لهذا المكان المكرَّس للحياة، وكأنّ نبضه الخاص توقّف لحظةً قبل أن يستعيد دفقه المرتبك. لم تنتظر إيفا تفسيرًا أو أمراً من أحد؛ اندفعت راكضة، تتبعها خطى الممرّضين والأطباء الذين خرجوا من غرفهم كأنهم يركضون نحو فاجعة يعرفونها دون أن يروها. كانت إيفا تشعر بأن الهواء أصبح أثقل من أن يُستنشَق، وكأن كل خطوة تطأها تعجّل وصولها إلى كارثة لم تكن مستعدة لها مهما بلغ استعدادها، وعندما أوشكت أن تبلغ باب غرفة حياة، تسارعت دقّات قلبها في صدرها حتى ظنّت أنّها تسمعها بأذنيها. دفعت الباب الموارب بعنف، بهتت... ثم تجمّدت…

هناك، على تلك الأرضية البيضاء الهادئة، تساقطت براءة الحياة الموعودة. رذاذًا أحمرًا لوّن أجناب السرير. كأن الرصاصة لم تخترق جسد فتاة فحسب، بل اخترقت قدسيّة المكان نفسه، ذلك المكان الذي يُفترض به أن يحرس أنفاس المحتاجين، لا أن يشهد توقفها.

شهقت إيفا شهقة انطلقت من الأعماق، من مكان لم تكتشفه في نفسها من قبل؛ مكان يجمع الرعب والعجز ولوم الذات في قبضة واحدة. ثم ارتفع صوتها صارخاً، صوتاً بدت نبراته أقرب إلى صوت أمٍّ فقدت وليدها منها إلى صوت ممرضة محترفة. ومع الصرخة، خذلتها قدماها، فسقطت بجانب الباب كمن يسقط من قمّة الوعي إلى قاع لا قرار له. أغمي عليها، وقد ظلّ صدى صرختها يهتز في الغرفة كارتجاف جناح مذعور.

لم تكن إيفا بالنسبة لحياة مجرّد ممرضة تراقب جهازاً طبياً؛ كانت ظلّها الحاني، وكانت قد حملت على عاتقها وعداً شخصياً لم يسمعه أحد سواها: أن تحمي هذه الروح الصغيرة من قسوة العالم، طالما بقيت هي قريبة منها.

كانت حياة بالنسبة لها ابنةً لم تنجبها، ونافذةً على معنى أعمق للمهنة التي اختارتها. ولذلك، حين رأت الدم يمتدّ من الفراش الى البلاط، شعرت أنّ ذلك الوعد قد انكسر في يديها كزجاج هشّ.

ساد الارتباك المكان. دهشةٌ وذهولٌ تلبّسا وجوه الجميع: الأطباء الذين اعتادوا مواجهة الموت، والممرضات اللواتي خبرن أصوات الاحتضار، جميعهم وقفوا مشدوهين أمام مذبحة وقعت في قلب حصنٍ يُفترض أنّه مُحرّم على الرصاص. كانت الصدمة أكبر من قدرتهم على الكلام...

كأنّ الأفواه نسيت اللغة.

لم يخرق هذا الصمت سوى صوت زميلة إيفا الأقرب، تلك التي كثيراً ما شاركتها نوبات الليل الطويل، همسات الخوف، وأحلام الهروب من هذا البلد الذي طالته يد العنف. كانت تعرف إيفا معرفة تكاد تبلغ حدّ قراءة الروح، ولذلك كانت أسرعهنّ إلى الانحناء فوقها. هزّت كتفيها برفق أولاً، ثم بقلق يتصاعد، هتفت تستدعي المساعدة:

"ساعدوني! إيفا لا تستجيب! نحتاج لإنعاشها فوراً"!

تدفّق الجميع نحوها، كأن صيحتها أعادت إليهم وعيهم. انقسموا في لحظة إلى فريقين: فريقٌ ركع إلى جانب إيفا يحاول استعادة وعيها، وآخر اندفع إلى خارج الغرفة لإبلاغ الإدارة، بينما تولّت طبيبة الطوارئ إغلاق الستائر وحماية ما تبقى من كرامة الجسد المسجّى.

كانت إيفا في عالم آخر.

عالم معتم،

لكنّه ليس ساكناً؛ كان يعجّ بالخوف. رأت في ذلك الظلام وجهاً تعرفه: وجه حياة، يبتسم لها كما كانت تفعل وهي تتحدّث عن شهيتها التي بدأت تعود، وعن رغبتها في الحياة رغم قساوتها، حاولت إيفا أن تمدّ يدها نحوها، لكن المسافة كانت تتسع، وتزداد برودة بينهما. سمعت صوتاً خافتاً، يشبه الهمس:

" لماذا تركتِني؟"

كانت تلك اللحظة أقسى من كل ما اختبرته في حياتها. لم يكن السؤال حقيقياً، لكنها شعرت كأن ضميرها هو من ينطق به.

وفي الخارج،

كان الهرج ينتشر كدخانٍ كثيف في الممرات. أفراد الأمن توافدوا متأخرين، قلقهم مضاعف لأنّ المكان الذي وُصف دائماً بأنه "محمي" انكشف على حين غرّة. أحد الأطباء، شاحب الوجه، تمتم:

"كيف يدخل مسلّح هنا؟ ... كيف؟"

لكن لا أحد يمتلك الجواب، السؤال بدا أكبر من مجرد خرق أمني؛ بدا كأنه سؤال عن زمن بأكمله، زمن صار فيه الموت أجرأ من الحياة.

بدأت ملامح إيفا تستعيد لونها شيئاً فشيئاً، بعد ان كثف زملاءها من الفريق الطبي عملهم على إنعاشها. ارتجفت جفونها أولاً، ثم تحركت شفتيها بحركة بالكاد تُرى. وعندما فُتحت عيناها أخيراً، لم تر سوى السقف الأبيض، وهو يسبح أمامها بلا تركيز. احتاجت ثوانٍ لتتذكر أين هي، ولتجتاحها الحقيقة من جديد كصفعة باردة.

أخذت نفساً مرتجفاً، ثم تمتمت بصوت مبحوح:

"حياة… أين هي؟"

كان السؤال كجمرٍ على لسانها. وحين لم يجبها أحد مباشرة، أدركت، قبل أن تسمع الكلمات، أن الجرح الذي انفتح في روحها لن يندمل سريعاً. لكنها، رغم ذلك، أغمضت عينيها قليلاً، وكأنها تستجمع ما تبقى من قوتها، قوة ستحتاجها لتقف مرة أخرى في هذا المكان…

مكان وُجد ليحمي الحياة،

لا

ليشيّعها.

7

مدّت إيفا يدها المرتجفة إلى جيب مئزرها الأبيض، ذلك الجيب الذي صار في الأيام الأخيرة

 أثقل

من

قلبها

نفسه.

كانت تبحث عن الحرز، ذلك الكيس الجلدي الصغير الذي تركته حياة بين يديها في آخر ليلة مضاءة بالأمل، وأوصتها به وصيّة تشبه الرجاء أكثر مما تشبه التوديع. قالت لها يومها، بابتسامة تُخفي قلقاً عميقاً:

"إذا متُّ يا إيفا… فهو لكِ. لا ترميه، أرجوكِ، فهذا… عمري."

تذكّرت إيفا العبارة كما لو أنّها تُقال لها الآن، بنفس النبرة التي كانت تجمع عتبات العمر كله في صوت فتاة تحلم بغدٍ لم يمهلها القدر الوصول إليه. وحين قبضت أصابعها على الحرز داخل الجيب، شعرت وكأنّ حرارة حياة تتدفّق منه، حرارة جسدٍ غادر، لكن أثره ما زال يسكن الأشياء.

أخرجته ببطء... ببطء يشبه انحناءة شخصٍ يلتقط بقايا قلبه من الأرض. ما إن رأته حتى انهمرت الدموع من عينيها؛ دموع خفيفة في البداية، ثم ثقلت كأنها تنزل من عمق الروح لا من محض جفنٍ مثقل بالسهر والتفجع. رفعته إلى شفتيها، وقبّلته قبلة من يحمل في يده آخر أثر لإنسانٍ لم يكتمل وداعه، وكأنها في تلك القبلة تعيد لروح حياة شيئاً من السلام الذي لم تجده في يومها الأخير.

همست وهي ممسكة بالحرز بين كفيها:

"رجوتني أن أحتفظ به، ووعدتكِ ألا يضيع… وها أنا أُجدّد العهد، يا صغيرتي".

راودها فضولٌ عميق أن تفكّه، أن ترى ما الذي اعتبرته حياة عمرها كله، ما الذي كانت تخاف ضياعه أكثر من خوفها من موتها نفسها. لكن حين حاولت أن تفك العقدة الصغيرة، تسلّلت رعشة عبر أصابعها، رعشة لم تكن برداً ولا انفعالاً، بل كانت شيئاً آخر… شيئاً يشبه خشية مواجهة حقيقة لم تستعد لها بعد.

تراجعت، وأغلقت كفها عليه من جديد، كمن يصدّ ظلّاً يقترب. قالت لنفسها:

"ليس الآن… ليس وأنا بهذا الاضطراب".

ظل الحرز يشغل بالها أياماً كاملة. كلّما حاولت التركيز في عملها، تسلل طيفه إلى ذهنها، يذكّرها بأن جزءاً من حياة ما يزال ينتظر أن يُكشَف عنه النقاب. وفي الليالي التي لم تستطع فيها النوم، كانت تستعيد اللحظات الأخيرة التي جمعتها بالفتاة: ضحكتها الخافتة، خوفها المكتوم، والأسئلة التي لم تجرؤ أي منهما على طرحها.

ومع ذلك، بقي الحرز مغلقاً. بقي سرّاً يتحرك معها في كل خطوة، كلما تسلّلت إليه يدها تبحث عن طمأنينة، زاد وجيب قلبها اضطراباً.

كان موعد إجازتها السنوية يقترب، تلك الإجازة التي وعدت عائلتها في السويد بها، ووعدت نفسها بأنها ستكون فرصة لالتقاط أنفاسٍ أثقلتها سنة كاملة من العمل في المستشفى، بين رائحة المعقمات وصوت الأجهزة وصدى الأرواح التي تعبر نحو المجهول في بلد تأكله الحرب والفوضى.

لكنها كانت تعرف في أعماقها أن هذه الإجازة، إن ذهبت، لن تُقضى كما تخيّلت. ثقل الحرز وحده كان كفيلاً بأن يسافر معها أكثر من حقائبها.

وقفت في غرفتها الصغيرة بالمستشفى، قبل ساعات من مغادرتها، تنظر إلى الحرز وكأنه مخلوق صغير يتوسّد كفّها ويطلب منها اليقين. شعرت للحظة أنّ حياة تقف خلفها، كما كانت تفعل حين تستجدي منها وعداً بأن تبقى قربها حتى تستعيد عافيتها.

همست إيفا، بمزيج من لوعة وحنان:

"سآخذك يا حياة… سآخذك إلى بيتي. ستسافرين معي".

ولم يكن القرار بسيطاً؛ كان أشبه بمصالحة مع وجعها. شعرت، لأول مرة منذ رحيل حياة، بنبرة دفء تتسرّب إلى صدرها: إحساس بأنّ حمل أثرها معها ربما يمنحها القدرة على مواجهة الغياب، لا الهرب منه.

وضعت الحرز في حقيبتها بعناية، كما لو كانت تضع طفلاً لا يريد أن يصحو. ثم جلست على حافة السرير، تستمع إلى السكون الثقيل الذي يسبق الوداع. كانت تعرف أنّ الرحلة لن تكون هروباً، بل بحثاً عن معنى لهذا الخيط الذي ربط بين حياتين" حياة انتهت، وأخرى ما تزال تبحث عن سبب يجعلها تمضي قُدُماً.

أغمضت عينيها للحظة طويلة…

ورأت حياة تبتسم من جديد.

هذه المرة، لم تبكِ.

هذه المرة، ابتسمت لها أيضاً.

8

كان شتاء البلاد، يوم عادت إيفا إليها، يتلألأ بضياء الأعياد، كأن الفجر قد نثر على السقوف نثاراً من فضّة باردة، والشوارع نفسها تستيقظ على أناشيد خفيّة تُعلي من شأن الطمأنينة. أضواء الميلاد كانت تومض بهدوء يشبه نبض مدينة آمنة لا يعرف قلبها الارتجاف، فتغمر كلّ مارٍ بإحساس مريح بأن العالم، ولو لوهلة، مكان يمكن الوثوق برحمته.

غير أن هذا السكون البهيّ كان يوقظ في أعماق إيفا شروخاً غير مرئية، ذكريات تنسلّ إليها مثل ظلّ طويل خلفها.

فهناك،

في بلد آخر،

على الضفّة التي تركتها وراء ظهرها، كان الناس يواجهون ليالٍ لا تُضاء بأي عيد، وأياماً تتشظّى فيها الأرواح تحت وطأة حربٍ لا يعرف أحد علامَ تُقاتل ومن أجل مَن تُسفك الدماء.

تذكّرت وجوهاً انطفأت ملامحها تحت رماد القصف، وأمّهات يرتجفن من كل دويّ، وأصدقاء لم يعد لهم وطن سوى صورة في جيب أو قبرٍ بلا اسم. كانت تفكّر في أولئك الذين خسروا كل ما هو عزيز دون أن يُمنحوا شرف اختيار التضحية، بل زُجّ بهم في نزاعات تحرّكها شهية لا تشبع من الأطماع.

حين وطأت عتبة بيتها، بدا لها الدفء المتسلّل من الداخل كيدٍ تمتدّ نحوها بعد غياب طويل. اجتمع حول الطاولة أبناء الأسرة وأحفاد صغار لم يسبق لعينيها أن احتضنتهم من قبل، فأخذت تحدّق في تفاصيلهم بحنينٍ يلمع في عينيها كدمعة مُمسَكة. كانت كمن يعيد اكتشاف جذوره، وكمن ينفض عن قلبه غبار الغربة. ضحكاتهم الطازجة تشقّ السكون، وتلوّن ملامح الأمّ التي لم يفلح الزمن في انتزاع رقتها.

امتدّ العشاء ساعات طوال، تبادلت خلالها إيفا مع الحاضرين قصص الغياب وأخبار السنوات التي حملتها بعيداً. نقّبت ألبومات الصور كأنها تنقّب عن ذاتٍ ضاعت في دهاليز الزمن، تلمس الصور بأطراف أصابعها كأنها تتحسس حياة أخرى كانت لها يوماً. وفي كل ضحكة، وفي كل حكاية، كان هناك ظلّ رقيق لحزنٍ لا يريد أن يختفي، حزنٌ يسكن عمق ابتسامتها منذ رحيل زوجها المفاجئ، ذلك المصاب الذي اقتلعها من حياتها الهادئة وزجّ بها في فوضى داخلية لم تجد لها مهرباً سوى عملها في بعثات الصليب الأحمر الطبية.

لشدّ ما كان ذلك العمل أشبه بقارب نجاة تُبحر به عبر جرحها المفتوح، محاولة لتملأ الفراغ القاسي الذي خلّفه رحيله. لم تكن تهرب من ذكراه بقدر ما كانت تحاول أن تبقيه حيّاً في شيء من خير تؤديه. كانت تؤمن أن كسرها يمكن أن يصير نافذة تتسرّب منها رحمة إلى الآخرين.

وحين انفضّ الجمع بعد العشاء، وخفَتَ صخب الأصوات، عاد البيت إلى هدوئه المألوف كأن الضحكات لم تزل ترفرف فيه. غير أن إيفا شعرت بأن السعادة التي كانت تعمّ المكان ليست سوى بُقعة ضوء صغيرة فوق بحيرة من الأسئلة التي ترفض أن تغفو داخلها.

توجّهت إيفا نحو مكتبها بخطواتٍ هادئة تشبه تلك اللحظات التي يختلط فيها التعب بالحاجة إلى السكون. كانت تحمل كوباً من شاي النعناع الساخن بين كفّيها كما يحمل المرء شيئاً يعوّل عليه لتهدئة ما يعجز عقله عن كبحه. كان بخار الشاي يتصاعد أمام وجهها في خطوطٍ رقيقة، كأنه يحاول أن يربّت على أفكارها المضطربة، أو أن ينسج حولها حجاباً من الطمأنينة التي افتقدتها طويلاً.

الغرفة كانت غارقة في نصف عتمة، ذلك النوع من الظلمة التي لا تُخيف، بل تُهيّئ الروح للاقتراب عما تهرب منه. وحده المصباح الأصفر على زاوية المكتب كان يصرّ على البقاء يقظاً، يلقي ضوءه الدافئ على الكتب المتراكمة

جلست أمام المكتب كما لو أنها تجلس أمام بوّابةٍ سرّية، بوّابة تقودها إلى فصلٍ آخر من حكايتها، فصلٍ لم تُقرّر بعد إن كانت مستعدّة لقراءته أم لا.

مدّت يدها إلى الحرز الموضوع فوق دفتر يوميّاتها، ذلك الكيس الصغير الذي رافقها منذ آخر مهمّة، منذ تلك الليلة التي انطفأت فيها حياة حياة وتركت خلفها هذا الأثر المربك. ما إن لامس النسج الخشن أصابعها، حتى شعرت باهتزازٍ خفيف في يدها، رعشةٌ لم تأت من البرد، بل من الذكرى.

قلّبته

بين

أصابعها

بحذر...

وكأنها تخشى أن ينفرط السرُّ المكبوت فيه بمجرد لمسة.

في تلك اللحظة أدركت إيفا أن اضطرابها لا يتعلّق بالحرز وحده، بل بكل ما ظلّت تدفعه إلى زوايا مظلمة لا تريد التفكير فيها. كان الخوف أول تلك الأشياء، ذلك الخوف الكامِن الذي يتسلّل إليها كلما استدعت ذاكرتها صورة حياة المسجّاة على سرير المستشفى. كانت ترى وجه الفتاة الشاحب، الجسد الخارج للتوّ من حياة قصيرة، والطلقات التي صادرت ما تبقى من حلمها.

كانت تسمع، في أعمق نقطة من الذاكرة، صدى الرصاص.

لم يكن مجرد صوت…

كان، كأن الزمن نفسه انشقّ في تلك اللحظة، وانسكبت منه الهشاشة التي صارت ترافقها منذ ذلك اليوم.

رفعت إيفا الحرز أمام عينيها كمن يزن بقلبه لا بيده ثِقَلاً خفيًّا لم يتجسّد بعد في لغة، لكنه يضغط على الروح كما تضغط الذكرى على جفنٍ مُرهَق. لم يكن الحرز مجرد قطعة جلد قديم، بل كان نافذةً صغيرة تُطل منها على روحٍ لم تهدأ، وعلى مسالك مُعتمة حفرتها الأيام في صدرها فلم تعد تدري أين يبدأ الخوف وأين ينتهي الفقد. حدّقت في خيوطه المعقودة، ثم شعرت وكأن صمت الأشياء حولها يسعى لفضح ما تخبّئه هذه اللفافة الضئيلة من أسرار.

تساءلت، بصوتٍ لا يسمعه أحد سواها:

"أهو تذكارٌ تركته حياة كي لا يبتلع النسيان أثرها؟

أم وصيّة أرسلتها من حدّ الغياب لتقودها إلى ما عَجِزَت عن رؤيته؟

أم لعلّه مرآة لروحٍ أُنهِك صوتها فصارت تستغيث بارتجافة خفيفة، تبحث عمّن يصغي قبل أن تسقط؟"

وضعت كوبها جانبًا، واستنشقت نفسًا عميقًا بدا كما لو أنه أول نفَسٍ تسترده من بين أنياب الماضي. تمتمت بهمسة خرجت من عتبةٍ كانت تخاف الاقتراب منها:

"حان الوقت… لأعرف".

مدّت

يدها

نحوه

ببطءٍ

حَذِر،

كأنها تخشى أن تستيقظ الأرواح النائمة بين ثناياه.

تناثرت الأوراق التي في داخله واحدةً تلو الأخرى، رقيقة كأجنحة فراشات ذابلة، مرقَّمة بأناة تنحدر من الواحد إلى العشرة...

كأن حياةً كاملة أُفرِغت في هذا الترتيب الغريب.

التقطت إيفا الورقة الأولى بأطراف أصابعها المرتجفة، ثم فردتها ببطء، وكأنها تخشى أن تتمزّق الذاكرة ذاتها… وبدأت

القراءة...

تابع

***

سعاد الراعي

في نصوص اليوم