نصوص أدبية
ناجي ظاهر: الضربة القاضية
فتح الفنان طلب الرفيع عينيه في ساعة متأخرة من الصباح. أطلّ من النافذة. الجو متلبد بالغيوم. يبدو أنها ستمطر. وقد كان عليه أن يستيقظ مبكّرًا، غير أنه لم يفعل بل كان عليه أن يردّد خمس، ثلاث او سبع مرّات سأستيقظ في العاشرة.. كما فعل في مرات سابقة غير أنه لم يفعل، وربّما كان بإمكانه أن يشتري ساعة رنّانة خاصة وأن يعبئها اهتمامًا بذلك الاجتماع المصيري، غير أنه لم يفعل، لا هذا ولا ذاك، واستسلم إلى نوع من الدفء. أخّره أكثر من الساعة المُحدّدة مسبقًا للاجتماع الفني القريب في الثامنة من صبيحة اليوم. أرسل نظره إلى التوقيت على هاتفه الخلوي. لقد تأخر فعلًا ساعة كاملة. الساعة الآن تشير إلى التاسعة وكسور. " ما كان عليك أن تسهر حتى ساعة متأخرة من الليل. لتفكر في مصير تلك العلاقة بزميلتك الفنانة الموهوبة طالبة الفنجري. " قال لنفسه، وتابع" أنت ينبغي ان تضع حدًّا لاستهانتها بك وبمشاعرك الجيّاشة تجاهها".
بسرعة مَن خطّط واستعد لكلّ طارئ ونسي في الوقت ذاته، ما ينبغي عليه أن يفعل ليحضر الاجتماع الفني في جمعية الفنانين، أو جمعية الفنجري كما فضل تسميتها.. على الأقل بينه وبين نفسه. انطلق مثل صارخ حائر وغير مُحدّد التصويب.. تمام التحديد، انطلق نحو حمّامه الصغير. فتح بابه الضيّق دخله وسرعان ما خرج منه. توقّف قُبالة المرآة المعمرة الكبيرة. المُعلّقة في صدر غرفته الضيّقة. سوّى ما تبقّى لم من شعر، وضع نظارته الطبّية على عينيه وانطلق.. بحيث بدا كما أراد وخطط.. شابًّا جميلًا وفنانًا ذا انتاج ابداعي لا يحتاج إلّا لمن يقدره ويجري وراءه.. جري الراغب المعجب.
الطريق نحو مبنى جمعية الفنانين البلدية كان على غير عادته قصيرًا.. ربّما قصّره تفكيره بفنّجريته العاصية رفيقة ليله وسميرته الساهرة. قبل أن يدخل المبنى توقف متفكرًا فيما عساه يفعل وسأل نفسه ما هي الخطوة التالية التي ستُقرّبه من فنانته المبدعة، وأحلامه المُبدّعة. لمعت في خاطرة فكرة ما لبث أن أعجب بها، وأضمر أن يشرع بتنفيذها بسرعة مَن يريد أن يفتح كتابًا ليقرأ فيه رواية حبّ روسية.. سمع عنها ولم تتح له قراءتها إلا بعد أن بحث عنها حتى كلّت قدماه وهو يتنقل من مكتبة إلى أخرى للعثور على نسخة منها. أما الآن وقد حضرت الفكرة فما عليه إلا أن يدخل إلى المبنى من أوسع أبوابه، وأن يفتعل أي حركة تُمكّنه مِن إنساء زملائه الفنانين أنه تأخر وأنه.. لن يبطّل تلك العادة وكأنما هو يتثقّل على الجميع.. كما قال له في موقف مشابه سابق صديقه الساخر المُقرّب.. الفنان محارب الغزي.
سوّى الفنان العاشق ملابسه بحيث يظهر في أبهى حالاته.. حالات المحب المفتون بـ ..الفنّ وأهله. دخل وطرق باب الجمعية، فلم يردّ عله أحد. كان الصمت مُخيّمًا على المكان "ما الذي حدث"، هل انتهى الاجتماع بمثل تلك السرعة؟.. ساعة و... مسافة الطريق؟.. أما أمر غريب. وبما أنه كان بحاجة لأن يواصل مشواره أو يعود إلى غرفته الصغيرة. وحمّامها البارد.. بل ومرآتها المنتظرة حضرته وطلعته ليلًا نهارًا. كان لا بُدّ له من أن يفعل شيئًا.. تناول خليويه وضغط على رقم زميله الغزي. وسرعان ما جاءه الردّ. لقد اقترحت الفنانة طالبة الفنجري أن ينتقل المجتمعون إلى المدينة المجاورة للقاء تعاونيّ بين جمعيتهم وجمعية تلك المدينة. وسرعان ما وافق الجميع فنحن يفترض أن نوسّع دائرة عملنا. وأين أنتم الآن؟، سأل زميله فردّ عليه هذا قائلًا لن تعرف مبنى الجمعية بسهولة.. سأرسل لك التمكين المكاني. سيكون اجتماعنا مطوّلًا.. بإمكانك أن تأتي.
توجّه الفنان الرفيع إلى أقرب محطة باصات وبعد انتظار دقائق توقّف الباص المسافر إلى البلدة المجاورة، فصعد درجاته الثلاث العالية وهو يتوسّم خيرًا وحظًا موفقًا هذه المرة بالذات. ها أنا ذا أبدأ السفرة بقدمي المباركة اليمين. أما الحظّ فيبدو أنه سيكون قمحة تُذكّر بسنبلة الكتاب المقدس. هذه المرّة لم يكن الطريق طويلًا، ورّبما ساعد في وصوله بتلك السُرعة أنه باص جديد.. "يخلف على شركة باصات البلد". قال وهو ينزل مُتعمّدًا الدرجات الثلاث التي صعدها.. حين امتطائه الباص. هكذا كان لا بُدّ له مِن أن يفعل ما طلبه من نفسه بعد قراءته كتابًا رائعًا عن اللاشعور وتأثيره على النفس البشرية.. فما تقوله بلسانك يتسلّمه عقلك الباطن ليترجمه لك. ما إن خطرت له هذه الفكرة المُتفائلة حتى شعر بقوة لم يسبق له أن شعر بمثلها خلال لقاءاته السابقة الفاشلة، أجل الفاشلة، بمن طال الطريق بينه وبينها وكان لا بُدّ له مِن أن يقصر. " سأقنعها هذه المرة"، قال وهو يسوّي ملابسه ويركز نظارته على ارنبة أنفه. ويدخل قاعة اللقاء الفني المزدوج.. ما بين جمعيتين مباركتين.
دخل الفنّان الرفيع قاعة الاجتماع، وفي فمه كلمات اعتذار على التأخر أولًا والتفاجؤ ثانيًا بالتوسيع الموفّق للاجتماع. غير أن أحدًا لم يعبأ به. ولولا أن زميله المُحارب دعاه للجلوس على كرسي حجزه له الى جانبه، لبقي واقفًا ولطالت وقفته وربّما لزعل وعاد قافلًا إلى بلدته الُمعتّرة. شعورٌ آخر بالتوفيق انتابه.. رغم كلّ ما حدث وجرى ووقع له حين دخوله ذاك. وكانت المفاجأة الكُبرى أن إدارتي الجمعيتين البلديتين، توصّلتا بسرعة إلى ابرام اتفاقية تعاون فيما بينهما. الامر الذي شجّع مُقترحة اللقاء وناسجة ثيابه الفنّانة المحبوبة طالبة الفنجري، أن تقترح جلسة احتفالية بما تفتّق عنه الاجتماع، من تعاون بين فناني البلدتين، من أجل إنعاش الحياة الفنية المُتراخية في الفترة الأخيرة تحديدًا. وزاد في روعة تلك الاحتفالية أن الفنان المُحارب غمز صديقه الفنان الرفيع وهو يتوجّه إلى الجميع مُقترحًا ان يجلس كلّ اثنين أو ثلاثة فنانين.. على حدة ليتم التعارف قبل التعاون وليشكّل بالتالي لبنة أولى وحقيقية في البناء الفني الشامخ.
تدافع المجتمعون بعد ذاك الاقتراح مباشرة وكان بإمكان كلّ منهم أن يختار مَن يجلس معه وإلى جانبه.. حول طاولة واحدة. وهكذا كان.. أما بخصوص بطلنا الفنان الهُمام، فقد بدا أنه استمد شيئًا من القوة مما أعدّه وأضمر أن يهيل به على الفنانة الأُمنية الفنجرية. أولًا ومن الاقتراح المُعظّم الذي اقترحه الفنان الزميل الغالي المحارب الغزّي على سن ورمح. ووضع السبع في ثيابه وهو يتقدّم من فنّانته العاصية، ضمن محاولة مستميتة لإقناعها بصدق مشاعره تجاهها، وليكن بعد ذلك ما يكون.. لمفاجأته الثانية اليوم أو الثالثة..أو.. وافقت الفنانة المنشودة المُتمنّاة على الانضمام إليه والتحدث بما أصرّ على أن يُسمعها إياه من أحاديث طلية واسرار ندية. فما أضمره ليس بالبسيط. ولا بُدّ أن يضع الحدّ على الزعرورة.
سار الاثنان في شارع حالم بعيد.. بعيد، تحيط بجنباته الأشجار المُخضرّة العالية. وكانا كلّما ما تقدما ينبض قلب الفنان العاشق.. في حين تُطل علامات التساؤل من عيني رفيقته، وعندما فاض بها الكيل. اقتربت مِن مقعد خشبيّ قديم.. انتظرهما على ما بدا دهرا تامًا، وطلبت من مُرافقها أن يجلس. جلس الاثنان مُتباعدين كلّا عن الآخر.. كما أرادت هي دونًا عن رغبته الجليّة الواضحة... وابتدأ الفنان المبدع في الاستعداد لتوجيه ضربته القاضية. فإما فلاح يسرُّ الصديق.. وإما اخفاق يسرّ العواذل. وهكذا ابتدأ الرفيع بغزل نسيجه المُتمنّى. افتتح حديثه بامتداح الطبيعة منشدًا مُتغنيًا بسحرها وهيجانها الخلّاب وعَرّج على عالم الفن الساحر، فقال مثل هكذا مناظر يُفترض أن نرسم.. طبيعة بلادنا .. هذه البلدة تحديدًا.. هي الأجمل في العالم. "هذه البلدة هي جنة الله على الأرض"، قال جازمًا. هكذا نسي دستوفسكي وأبلهه وكلّ ما أعدّه مِن حكايات تهزّ قلب الحجر وتدفعه دفعًا إلهيًا في أن يعطف ويقترب ويحب زميله الحجر. وراح يتغنّى بالمكان وأهله. وبالتعاون الفنّي البنّاء الذي بادرت إليه هي ذاتها.. الفنانة الرائدة طالبة الفنجري. وانهال عليه الكلام من كل ركن وزاوية.. ضمن محاولة مكشوفة وواضحة لإقناعها بأنها لن تندم إذا ما وافقت على فتح الأبواب المُغلقة للعلاقة فيما بينهما هما الفنانان الرائدان الخلاقان.. وزاد في تماديه الغرامي الواضح هذا.. انه لمّح إلى جمالية أن يتّفق فنان وفنانة.. لرسم أجمل المشاهد في تلك البلدة المجاورة. عندما لاحظت الفنانة الفنجري أنه فتح محطة بثّ إعلامية إذاعية في رأسها. انتصبت واقفةً.. في حين هو.. واصل تدفّق سيله الكلاميّ. ولم يُفيّقه مِن الاندفاع الصاخب المجنون في تيّاره ذاك، إلا انتهارها إياه قائلة أليست بلدتنا وأشجارها أحق وأجدر بان نرسمهما؟.. ولم تنتظر ردّه غير المطلوب. وانصرفت مبتعدةً عنه.. وسط اقتراب صديقه محارب الغزّي منه.. حيث جلس مثلَ عصفور بلّله المطر.. واعدًا إياه بالخير المنتظر القادم.
***
قصة: ناجي ظاهر






