نصوص أدبية

عبد الله الزعبي: لحنٌ أخير على وادي هدسون

إهداء: إلى الحروف التي لم تُكتب، والأسماء التي صارت شواهد، إلى الغائب الذي تحوّل قصيدة، والدمعة التي سالت حبرًا، والصمت الذي اختار أن يتكلّم بطريقته.

هناك أماكن لا تحتفظ بالزمن فحسب، بل تُخفيه في قلبها كما تخبئ الحقول آخر دفء للشمس قبل أن يبتلعها الغروب. تلة وادي هدسون، في خريف 1985، بدت خارج إيقاع التغيّر؛ جمالها مؤصّد في زجاجة زمن مغلقة. الأعشاب تنمو كما تشاء. ولولا أميليا، لكنت مررت بها كما يمرّ الغيم على قمم بعيدة، عابرًا بلا أثر.

في صباح ضبابي، حين كانت الأشجار ترسم أسماءها على الهواء، أشارت إلى ممر ضيق وهمست: «هذا المكان يناسبك». مشيت معها. الأرض تفوح برائحة المطر، والهواء مشبع بندى الطين ودخان مدخنة بعيدة. باغتها سعال رقيق وأخفَته في منديل أزرق. سألتها إن كانت تشعر بالبرد. ابتسمت: «لا شيء يدعو للقلق». لم أكن أعلم أن تلك التلة ستبقى في ذاكرتي لا كصورة، بل كفصل مؤجَّل من حياتي، وأن نظرة واحدة كانت كافية لفتح باب ظلَّ يطلّ على فراغ منذ ذلك الحين.

في أسبوعي الأول بالجامعة، كنت أتنقّل كحرف غريب في نصّ لا أفهم لغته. الوجوه تمرّ كأطياف، واللغة كزجاج نافذة قديمة؛ تُظهر كل شيء، لكنها لا تمنح دفئًا. دخلت القاعة متأخرًا، تعثّرت وسقطت كتبي. ارتطم صوتها بالأرض نقيًا، كأذان فجر في قرية نائمة. قبل أن أنحني، مرّت ضحكة خفيفة، كنسيم يتسلل من نافذة مواربة. رفعت بصري ببطء. كانت واقفة في صمت، خارجة من حلم لم أره قط. شعرها منفلت كأنفاس الحقول المذهّبة قبل الحصاد. ابتسمت وقالت: «بداية قوية». أجبت: «أو نهاية مبكرة». ابتسمت، كمن يعرف أن اللحظات الصغيرة لا تبدأ إلا بعد أن تنقضي.

بعد المحاضرة، وجدتها عند الباب. «أنا أميليا»… همست، كما تُولد أول كلمة في قصيدة يؤمن بها الشاعر قبل أن يخطّها. كان في حضورها ما يجعل الغريب مألوفًا، وما يجعل اللقاء الثاني بلا دهشة.

في الأيام التالية، كنا نلتقي بلا موعد. أحاديثنا، وإن قصرت، كانت تترك أثر تفاهم لا يحتاج إلى شرح. في إحدى النزهات، وقفت أمام النهر كأنها ترى فيه ظلّ سلما، ألاباما، وقالت، وعيناها معلّقتان على صفحة الماء: «بلدة صغيرة، لا يحبها أحد، لكنها تحفظ الوجوه كما هي». ثم تابعت: «ربما من وُلد فيها يقضي عمره محاولًا مغادرتها… أو يحملها معه أينما ذهب». تذكرت مدينة والدي. لم يكن يذكرها كثيرًا، لكنه كان يحملها في نبرة صوته كما يحمل الفلاح أول قطرة مطر في موسم جاف، بحذر لا يخلو من رجاء. قلت: «ثمة مدن نظن أننا تجاوزناها، لكنها تظل كامنة في طريقة تنفّسنا». ابتسمت، كأنها تودع الفكرة للنهر، وتركتها تنساب مع التيار.

بعد أيام، دعتني إلى التلة من جديد. قالت: «هذا مكاني. هنا أسمع صوتي دون أن أرفعه». ما بلغني لم يكن صوتًا، بل سكونًا يتشكّل بيننا، كخيط ضوء يتسلل من نافذة مغلقة.

وفي أحد أيام الخريف، ونحن نعبر فناء الجامعة، توقفت عند شجرة الدردار. قالت: «أحب هذه الشجرة الطاعنة؛ تتجدّد بصمت كل عام، وتلوّح بذاكرة لا تنطفئ، كيد عجوز تعرف كل الوجوه». صمتت لحظة، ثم أضافت بلهجة حالمة: «أريد أن أترك أثرًا قبل رحيلي». ابتسمت، مستعيرًا سؤالًا من نص مألوف: «أليست هذه رغبة الجميع؟». لم تُجب، بل حدّقت بعيدًا، حيث كانت الأشجار تتوارى في الضباب، ككلمات تُمحى من قصيدة غير مكتملة.

ثم جاء أول شتاء لي في ألباني، شمال نيويورك. هبطت الحرارة إلى ما دون عشر درجات تحت الصفر. من خلف زجاج الكافتيريا، راقبت البياض يغمر الحديقة بصمت لا يحتاج تفسيرًا. أشارت أميليا: «هيا، لنخرج. هذا أول ثلج حقيقي». توقّفت وسط الساحة، رفعت ذراعيها، وأمالت وجهها نحو السماء. استقبلت الثلج كطقس طفولي تحفظه في قلبها. قالت: «ألا ترى؟ كل شيء يُمحى… أليس ثمة ما هو أنقى من بداية بيضاء؟». فكرتُ في المدن التي تُمحى ملامحها تحت الثلج، وقلت ممتعضًا: «إنه الجحيم». ضحكت: «ربما ترتجف لأنك تفكر في البرد. لا تدعه يفكر عنك».

ثم حكت بصوت خافت عن شتاء بعيد بألاباما، كانت فيه طفلة عليلة، وأمها تهمس: "البرد يسكن القلوب قبل الأجساد، ومن يبرأ منه لا يعود كما كان." صمتُّ، لكن وقع كلماتها ظل يطرق داخلي.

في الطريق عائدًا، خطرت لي حكاية زواج والديّ. جدي هو من قرّر أن يزوّجه بابنة عمّه، حفاظًا على صلة الدم؛ كأن العائلة أثقل من نداء القلب. لم يخترها، بل وُضعت في طريقه كما توضع الحجارة في مجرى النهر. ربما لهذا كنت أبحث عن علاقة لا تبدأ بختم العائلة، بل من ارتباك صادق، من رعشة لا تُفسَّر. كأنها أول برق في ليل طويل.

مرّت ثلاث سنوات على لقائنا الأول. ما بيننا لم يكن حبًا معلنًا، ولا صداقة عابرة، بل مساحة رمادية بين كلمة لم تُقل ومعناها. ثم جاء المساء الذي طلبت فيه أن ألقاها على التلة. كانت على صخرتنا القديمة، والجدية الحزينة تملأ صوتها: «حين يبدأ الجسد في الغياب، لا يبحث عن معنى… فقط يريد أن يُرى». صمتنا قليلًا، ثم قالت إنها لم ترد أن أركض خلف نبض يُقاس بالأرقام، وإنها لم تعد تملك رفاهية الصمت. أخرجت دفترًا صغيرًا: «فيه مغلف. لا تفتحه الآن… اقرأه حين يصمت كل شيء».

لم أرها بعد ذلك لأسبوعين، حتى وردني اتصال من والدتها. تكلمت بصوت واهن، كأن الحروف تمشي على حافة الصمت، تتعثر بين الحلق والقلب. صمتت لحظة، ثم أفرغت ما في صدرها. قالت أخيرًا: «كانت تقول إنك لا تحتاج وصية… أنت تعرف. أردت فقط أن أخبرك… أنك لم تكن صديقًا. كنت الباقي».

بعد يومين، صعدت إلى التلة. جلست على صخرتنا، وفتحت المغلف. كان الورق باردًا، خشن الحواف، ورائحته تشبه دفاتر المدرسة القديمة. الحبر الأزرق يلمع تحت الضوء. قرأت: «كنت أتمنّى أن يكون لي معك زمن لا يخذلني». أعدت قراءة السطر الأخير، وشعرت أنه يتنفّس معي. همست، كمن يطلق صرخة سرية لا يسمعها أحد: «سأتخرّج يا أميليا… وسأحمل هذا النقاء الذي أهديتِني إيّاه، آخر ما تبقّى من أمريكا يجاور نبضي».

وبينما كان الصمت يهبط على التلة مثل ثلج متأخر، أدركت أن البياض لم يكن غيابًا، بل شكلًا آخر للحضور؛ حضور يظلّ يرافقني حتى وأنا أمضي، كظلّ لا يذوب في الضوء، وكأغنية لا تنتهي حين يسكت العازف.

***

عبد الله محمد الزعبي

 

في نصوص اليوم