نصوص أدبية

محسن الأكرمين: سحق الروح...

لا زالت آنْيَا تسحق روحها بلا رأفة، هي تعلم أن لا حياة لها بعد أن استعادت ذاكرة غيبوبتها، واستحضرت فجأة ذاك الماضي الأليم الوافد أمامها بالتشتيت. حين استفاقت آنْيَا من غفوة فراغ تفكيرها، صُدمت بتلك التحولات الواقعة على حاضرها والذي بات مكهربا. لم تتمكن من معانقة كل الوجوه التي حضرت لبشرى عودتها من سكة الموت، ولكنها استفاقت حزنا على جُلِّ الأحداث الصغرى في حياتها، حتى أنها تخلتْ عن الكلام المباح مع كل من يحيطها لحظة فرحتهم باستعادتها لروحها و ذاكرتها. من حكمة التأني الذاتي أنها تاهت في مُفترق رُكام من الأسئلة الاستنكارية (متى/ كيف/ لماذا/ أين...). 

كل من بالغرفة شربوا ابتساماتهم بالخوف المزدوج على آنْيَا من العود نحو فقدان الذاكرة والسقوط في الغيبوبة المستدينة. آنْيَا لازالت في غرفة الإنعاش تستعيد أجزاء من طاقة استفاقتها، لكنها بذات الوقت تعيش لحظات من تجربة الجمع بين تأمل وضعيات الحاضر، واستحضار ما حدث لهم بعد الحادثة المميتة والتي أبقتها بالحياة مغيبة لما يزيد عن السنة ونيف. في القاعة المجاورة التي تم نقلها إليها، تم قطع بهرجة حلقات الحضور حول سريرها بعد عودتها من اللانهاية.

في ذات الغرفة بالمستشفى اعتبرت آنْيَا أن زمنا من ذاكرتها بات يحمل رمزية للمنسيين وبلا تاريخ ميلاد، وبأحداث تتفحم أطرافها كلما خاصت في عمقها. لحد الساعة لم تقدر آنْيَا على توضيب حاضرها عبر بناء تفكيرسلاسل زمنية متعاقدة البنيات، فهي فزعة ولم تكتشف عمَّا حدث لها ما بعد الحادثة المميتة. بات الصمت في القاعة بعد إفراغها من زوار العودة أُغنية حزينة للخوف من حالة نكسة العود للاوعي والغيبوبة الغائرة. فقد كانت  آنْيَا تكره التناسي، وتقول: الإنسان يتم تناسيه كليا، حين لا يُدون تاريخه حتى ولو في أرشيف مخزون الذاكرة السالبة.

كانت آنْيَا تتأمل وجوه من حضر بغرفة استفاقتها وجها تلو الآخر، كانت كل الروابط تتحرك من خلال استدراك عبء التاريخ المنسي بالضرورة والواقع، حيث استفاقت ورأت ملمح وجهها الشاحب على المرآة. الكل لاحظ أن آنْيَا تُقاوم الوجع والألم، وفي مشهد مؤثر قد يوحي ببكاء من حضر، ولم تقدر لحد ساعتها أن تنتصر على ضبابة الخوف والذنب فيما حدث لها ولأسرتها الصغيرة في طريق المنعرج الغائر بالهاوية المفتوحة.

استولى القلق على آنْيَا بتعب الحمى، حتى أن الدكتور قرر تطعيمها بجرعة من حقنة مهدئة، حتى لا يداوم عقلها المفكر في طرح أسئلة مربكة عن سبب فراغات جزء من زمنها العمري، وحتى لا تعيد فتح الجراح بعد أن فقدت ابنها في تلك الحادثة المروعة بالموتى والجرحى. كان الجميع يَعلم بالحقيقة المدفونة مع جنازة الابن بلا حضورها، وهي الحقيقة التي تؤلم ولم تقدر على استدراكها آنْيَا حينها، لكنها في تفحصها لكل الوجوه كانت تبحث عن ابنها بالتمام وكمال الروح، وتعمل على هزم مُسودات ذاكرتها الخفية.

كانت آنْيَا لا ترى ابنها بين الحضور يفرح باسترجاعها من موت أكيد، لكنها كانت تسمع أنينه، ولحظات لفظ أنفاسه الأخيرة وهم في الهاوية السحيقة لوادي الموت. أصبحت آنْيَا مُشوشة الذهن بعد الاستيقاظ الفجائي، والوعي التام لم يكتمل عندها بالتعبئة المستدامة على مستوى مخيلتها المنتوفة بالألم والعمليات الطبية المتكررة بالوجع. من صلابتها كانت تقاوم الجرعة المسكنة المرتبطة بمصل لاصق على مستوى ذراعها الأيمن. كانت تعمل بدا وبالإمعان والإصرار على محاولات تغيير أحداث الماضي، وعدم دفنه في مقابر الحاضر بعد عودتها من حدود النهاية الحتمية للموت.

كان الطبيب يتابع كل التغيرات الجسدية والنفسية لتلك المريضة التي تضامن مع جراحاتها المتفاقمة حين أنزلتها سيارة الإسعاف. هو يعلم بالتتبع وتجربة الخبرة أن ذاكرتها قد تُفحم بالنسيان القسري، وهي المشكلة التي لا تطمئن على سلاسة عودتها لمداومة حياة الواقع بأمان المساندة. كل الأسئلة التي باتت تنام الليلة مع آنْيَا لا تمنحها أجوبة حقيقية دالة، بل ستبقيها تعيش مع السؤال الماكر بالحزن، ولا ملاذ للهروب من أجوبة صريحة في مستقبل استفاقتها، إن آنْيَا تمكنت من تجاوز عقبة الواقع والمتخيل في ذاكرة عودتها المخرومة.

***

محسن الأكرمين

....................

* فصل من رواية (صانعة الأحلام)

 

في نصوص اليوم