نصوص أدبية
مامند محمد قادر: الطائرة الورقية

في ظهيرة احد أيام أواخر شهر أيار، جلس الطفل على تلة خالية من الاشجار تغطيها بقايا حشائش الربيع المتيبسة، مديراً ظهره الى المدينة الميتة التي يتكرر فيها كل شيء بلا حياة. شرع بيديه الصغيرتين بصنع طائرة ورقية من ورقة كبيرة، وقام برسم خارطة وطن على جناحي الطائرة، وطناً لم يعش فيه قط، ولكن احتفظ بتفاصيله الدقيقة التي تمنَاها في مخيلته، رسم فيها قرية تنام مبكرا في أرجوحة من الهدوء وتصحو على زقزقة العصافير، ورسم فيها بيوتاً، ودروبا، وجداولا، ووزَع عليها الواناً تشبه حنينه وأحلامه الطفولية، لوَن التراب، لوَن السماء الصافية التي طالما حلم بها في ليالي الغربة. لم تكن الطائرة مجرد لعبة، بل كانت له سفينة تحمل في أشرعتها صفقات أجنحة الطيور ووشوشة فراشات مهاجرة وخفقات قلبه الصغير. رفع الطائرة نحو السماء والرياح تلعب برفق بأوراقها الرقيقة. بدأت الطائرة تصعد، تصعد في عمق السماء اللامتناهية، ومع كل ارتفاع كانت خطوط الخارطة تتلاشى وتتبدد بين الغيوم. كان يتابعها بعينيه المبللتين وهي تختفي عن الأنظار، شعر وكأنً وطنه يغادره. ظل واقفاً في صمت عميق، تتلاطم في ذهنه موجات الذكريات، وجه الجد المليء بالحكايات، ابتسامة الأم التي كانت تشبه دفء الشمس، ضحكات وصيحات الاصدقاء وهم يركضون في الأزقة الضيقة التي لم تعد موجودة. كانت الوجوه ترتسم أمامه كلوحات محاطة بضباب الفقدان والغياب. في تلك اللحظة شعر بثقل الغربة يعصر كيانه. وطن لم يُفقد من الأرض فحسب، بل من الذاكرة ومن الروح. حدَق صامتاً في السماء متمنياً أن تعود الطائرة يوماً ما حاملة وطنه، وطن لا تتغيب عن أرضه الشمس ولا تتلاشى فيه الوجوه.
***
قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر
* شاعر وقاص عراقي كوردي