نصوص أدبية

جمال العتّابي: حفلات (القطع)

في مساءٍ رماديٍّ خنقه صمت المدن المنكوبة، وقف الشاب (سلمان) على عتبة ساحة صغيرة، وسط زحام العابرين، وقلبه ينبض بكلماتٍ ثقيلةٍ كالحديد. لم يكن في نيّته النجاة، ولا أن يكون بطلاً أو شهيداً في معارك خاسرة، بل أراد أن يقول الحقيقة .. أن يُسمعها مرةً واحدةً، بوضوحٍ، قبل أن تُطمر تحت الركام.

رفع سلمان صوته عالياً، متحدياً الجدران التي تسمع ولا تُجيب:

كفى… كفى ظلماً. لقد ذبحتم الحريّة على مذابح الخوف، توّجتم الرعبَ ملكاً، وزرعتم في صدورنا صمتاً يشبه القبور .

في لحظة خاطفة انقضّت عليه أذرعُ الظلام. رجال بملابس سود وأقنعة أكثر سواداً حتى كلمة (فدائي) على الجباه كانت كالحة. وجوه تحيط به من عتمة الليل، العيون هي الوحيدة المكشوفة كأنها جمرات تتطاير شرراً، لم يقاوم الكتل التي أحاطت به، كانت تحمل قلوباً من حجر، ليس لها صدى سوى أنفاسها الثقيلة، يقفون بثبات عجيب، كأن الهواء ينحني لهم، والجدران ترتعد من رهبة حضورهم… المشهد كله مشدود كوتر قوس، يوحي أن العنف قادم، لا كغضبة عابرة، بل كقصاص مكتوب من عهد سومر..   يعلم سلمان أن الكلمة الحرة ثمنها غالٍ في ممالك القهر .

سكاكين حادة تلمع، ربما تلهث متعطشة لسفك الدماء، للانقضاض على الكلمات قبل أن تولد، تتكاثف العتمة حول الرجال السود، كأنها جزء منهم، أو كأنهم خلقوا من نسيجها، خطواتهم بطيئة، محسوبة، كأن الأرض نفسها كانت تخشى أن تنطق، فرضت عليها طقوس الصمت .

شرارات متتالية كانت تتطاير من جحيم داخلي، تراقب أية حركة، السكاكين في قبضات هؤلاء ليست مجد أدوات معدنية، بل امتداد لطبيعتهم، نصالها حادة، يشعّ من حوافها وهج نار .

قبل أن يساق للقصاص بدقائق، لم يسأل عن محامٍ، لم يتوسّل، ولم يلعن. جلس كمن يقبّل جراحه صامتاً، وفي عينيه سؤال واحد: “هل سمعوني؟”

رائحة عطنة تنتشر في الجو، مزيج من الخوف مع صليل السكاكين يوحي أن اللحظة التالية ستنفجر عنفاً، لكن أحد الجزّارين، ضخم الجثة، تقدم نحو سلمان ببرودة متناهية، كان جاثياً مكبلاً كذبيحة تنتظر النحر، مدّ الملثم يده، خشنة كلحاء شجرة عجوز، أمسك بفك سلمان بقوة، غاصت أصابعه في اللحم كأنها خطاطيف .

أدخل السكين في حلقه، ثم، بخبرة الجزار المتمرس، استخدم طرف النصل لرفع اللسان من قاعدته الأقرب إلى اللهاة، كمن يقلّب زهرة مذبوحة في مهب ريح، سحب اللسان بأطراف أصابعه، امتد نحو الله !!! إلى السماء، مستغيثاً، لكن السكين كان قد بدأ طريقه، تقطّع الهواء بثقل مرعب ثم ترنح اللسان على التراب. والدم خطّ على الأرض سيرة ما لاينسى.

صراخ سلمان، كان أقرب إلى العواء، تقوّس عنقه إلى الوراء بلا إرادة، الصراخ تحوّل إلى خرير مكتوم، كما لو أن الحياة كانت تنزف .

في مدينة سلمان، صار الناس يشيرون بأصابعهم إلى أفواههم المغلقة، ثم إلى قلوبهم، هذه الحركة تحولت إلى عادة تميز أبناء المدينة، وإشارة إلى الفهم الأعمق من الكلام. يتداولون وصيته الأخيرة كمنشور سري:

- انتم تقطعون اللحم، أما الحقيقة فهي تسكن في العظام.

- لا وطن حين يقطع اللسان، بل قبر واسع اسمه (صمت).

- الحقيقة تتناسل بين الشفاه المغلقة، تكبر في صمت المهمشين، وتنفجر يوماً كالنار.

- غداً ستحتاجون ألف سكين لقطع أصواتكم جميعاً.

***

جمال العتّابي

في نصوص اليوم