نصوص أدبية

جودت العاني: الإنسلاخ..!!

تقلب فوق فراشه الرث، وتمدد مرة على ظهره المنحني، ثم على جنبه الأيمن وعاد يحدق في سقف الغرفة المأكول بالرطوبة والتي تفوح منها رائحة غريبة.
ترك جسده مسجاً فوق الفراش وحلق يفتش عن منفذ للخلاص من تلك الرائحة التي تبعث على التقيؤ ولكن دون جدوى سوى اطلالة من نافذته الصغيرة على الساحة الخلفية لعمارات إسمنتية تشع حرارة في فصل الصيف وبرودة قاتلة في الشتاء، وبدلا من ان يشم هواء نقيا دخلت انفاسه رائحة المخلفات التي تفوح من نوافذ صغيرة تعج بها شقق العمارات.. اقفل النافذه بسرعة فائقة قبل ان ينتهي به الأمر الى التقيؤ.
حدق في السقف والجدران المنهكة الفاقعة إلا من لون نزيز المياه الهابطة الى الأسفل.. عاد الى فراشه النتن وتمدد ثانية على ظهره المعوج وتأمل لوحة السقف السوريالية وفضل أن يترك جسده لحاله، هذا الجسد لا فائدة منه أبداً إنه عبأ عليه ولا فكاك منه طالما كان ملتصقا به منذ ان كان جنيناً.
تركه ممدداً تعيسا وأدرك انه قد انفصل عن جسده، فقرر ان يعوفه مسجياً ويحلق هو فوق تلك الهضاب والمنحدرات الخضراء، عالم كان غائبا عنه منذ أن ادرك وجوده.
نظر إليه من الأعلى مسجياً دونما حراك وطاف حوله وتأمل كيف كان يتحرك وكيف كان يتكلم ويضحك كيف يشحن ويفرغ غريزته،
عندها شعر بشيء من الخجل، حين تذكر كيف غضب من ذبابة افقدته صوابه بعنادها المزعج وهي لا تكف عن الدوران حول رأسه حتى إنها حاولت الدخول في فمه ومنخاره.. وكيف إنه خرج عن طوره كإنسان طاردها وهو يبحث عنها في كل زوايا الغرفة وكيف كان عقله قد تقلص بموازاتها في الحجم والحركة.. حتى إنه لم يعد هناك ما يفكر به سواها وجردته من وجوده تماما وهي تطن في بحر من الصمت الذي يسود الغرفة ولا يدري أين تختبئ. وحين جلس ليستريح من جراء المطاردة العبثية، شعر بأن جسده لا حاجة له فيه وربما لم يعد له وجود طالما ان تفكيره قد انسلخ إلى عالم آخر، ظل تفكيره محشوراً في زاوية واحدة يرى من خلالها جسده كتلة هامدة لا حراك فيها، عندئذٍ تمتم مع نفسه:
(ما دامت محلقاً في عالم آخر، فهذا يعني إني انسلخت عن جسدي، وهذا يشعرني بشيء من الحرية، التي لم تعد تشعرني بالمسؤولة عن تلك الكتلة المسجية من اللحم، إنها عبأ ثقيل من المسؤولية.. افكاري مازالت تحلق في فضاء جميل أما تلك الكتلة من اللحم فلم يعد لها من معنى).
ولكن كيف تتشكل هذه التصورات..؟
فكرً يحلقْ - كتلة من اللحم لا معنى لها - الشعور بالحرية مسؤولية - الوجود الذي يخلو من المعنى.. كيف يمكن جمع هذه المفردات في سلة واحدة تخضع لمنهج التحليل الوجودي؟
لما كان الوجود يخلو من المعنى، فلماذا اتحمل مسؤولية كتلة مسجية من اللحم؟
كان هذا السؤال موجه إلى احد الاشخاص في قضية محكمة كافكا.. بيد أن الرد جاءه من وراء الستارة المعتمة:
اسكت، ما دمت ترى ان كتلة اللحم المسجية هناك تخلو من المعنى عليك نسيانها، ومع ذلك فانت لا تستطيع أن تلغي وجودها، إنها موجودة شئت أم أبيت.
أطبق شفتيه وزمها بإستغراب:
نعم، لماذا الإكتراث بوجودها؟
ولكن، لولا تفكيري بوجودها لما وجدت.. وإن تفكيري بها يثبت وجودها.
تمهل أيها المفكر.. إنها موجودة كحقيقة شاخصة تسبق التفكير فيها.. إنها جثتك وإن ابتعدت عنها وحلقت وأنكرت وجودها.
ولكن ما نفع وجودها إذا لم أفكر بها.. ألم يخلقها تفكيري.. من يعلم بوجودها لولا تفكيري الذي خلقها؟
أردف يقول مع نفسه:
ولكن، ألم تكن هي موجودة قبل أن أفكر بها؟
يا إلاهي، ألم تكن هذه كلها مماحكات فكرية مجردة خالية من المعنى؟
مَنْ يسبق مَنْ، الفكر أم الوجود؟
ولكن، لماذا الفصل أساساً بين الفكر والوجود؟
كلاهما متلازمان في وحدة الوجود الكلية، ولا حاجة لوهم إسمه الإنسلاخ.؟ (*)
***
د. جودت صالح
23/ آذار 2025
(*) جون بول سارتر- باريس/ من وحي فلسفة الوجود والعدم

في نصوص اليوم