نصوص أدبية
محمد علي شاحوذ: قالت لي العرافة
![](/images/1/mohamad_ali_shahothe.jpg#joomlaImage://local-images/1/mohamad_ali_shahothe.jpg?width=&height=)
منذ نعومة اظفاري نشأت صداقة وطيدة بيني وبين الصحف، فلا أنام في سريري أو يغمض لي جفن الا وبين يدي صحيفة اطالعها، وقد أدمنت مبكرا رائحة اوراقها كأنها رائحة خبز تنور حار وقت الغروب، وقد كان أخي مهدي مولع باقتناء مختلف الصحف اليومية في التسعينيات ومنه تعلمت هذه العادة، وفي احدى المرات وقد كنت على اعتاب المرحلة الثانوية، نزلت ماشيا كعادتي من بيتنا في حي الاسكان باتجاه مركز مدينة الرمادي لأحصل على حصتي من الصحف من المكتبة التي تقبع في ناصية شارع السينما العتيد، فهذه الناصية التي تمثل مركز السوق ولها مكانتها الأثيرة عند الناس، حيث لم يكن في المدينة سوى شارعين او ثلاثة لا اكثر، وقفت أمام الصحف كعادتي متأملا عناوينها، لأقرأ كل ما تقع عليه عيناي، وقبل أن أدفع لصاحب المكتبة ثمن الصحف سمعت صوتا خافتا بالكاد سمعته (اعرف حظك وشوف بختك من خطوط ايدك)، تتبعت مصدر الصوت، فاذا عجوز مسنة تسند ظهرها الى جدار المكتبة الخلفي تعرض خدماتها بقراءة الطالع مقابل ثمن زهيد.
لم استطع مقاومة رغبتي في خوض التجربة، وبلا وعي تقربت منها بدافع الفضول، وبدون تردد أخرجت من جيبي المائة فلس والتي لا املك غيرها، وبالطبع كان مصدرها اليومي اخي مهدي وهو القارئ النهم، الذي علمني حب الادب والكتابة، فقد كان مثقفا واعيا، وكاتبا خطيرا، وبسرعة اخرجت المائة فلس من جيبي ووضعتها في يد العرافة التي اخذت كف يدي اليمنى وبسطتها بين يديها الذابلتين، و راحت تمعن النظر في خطوط يدي المتعرجة، وبعد ان سحبت نفسا عميقا قالت (أنت محظوظ يا ولد، فطالعك يبشر بالكثير، أرى في يدكِ قلما، ودنانير كثيرة، وأرى نساء جميلات تدور في فلكك)، وهنا اعترتني غبطة لا اعرف سببها، وتابعت كلامها (أراك تقف في حقول خضراء واسعة، ومن حولك تمرح قطعان من الخيول والغزلان) ثم صمتت برهة، واكملت (حينما تكبر عليك ان تخبرني بصدق نبوءتي)، ووعدتها أن افعل.
قفلت راجعا دون ان احصل على ضالتي من الصحف، وتحججت (لمهدي) الذي كان ينتظرني مع الصحف، وتحججت له بأن السيارة التي تأتي بالصحف من العاصمة بغداد قد تأخرت عن موعدها، ولم اخبره الحقيقة، وأحسست بتأنيب الضمير، وبدلا من الصحف تحصلت على نبوءة العرافة الغريبة والتي تتزاحم فيها مفردات غريبة، قلم، ونساء، وفلوس، وخيول، وكأنني أقف امام لوحة سريالية!!.
مرت السنوات مسرعة، ولكنها لم تستطع محو تلك النبوءة من ذاكرتي، فقد بقي صوت تلك العرافة يرن في أذني، وكلما وقعت عيني على خطوط كفي تذكرت كل حرف قالته.
واليوم وبعد انقضاء ما يربو على الثلاثين عاما وجدت قدماي تجراني لشارع السينما ذاته، وراحت عيناي تلتهم كل شبر في المكان بنظرات خاطفة، غير أنني لم اجد اثرا لمكتبة الصحف تلك التي كانت من ابرز معالم السوق، غيران الشارع وناصيته بقيت كما هي تحكي تأريخ مدينة مرت بمنعطفات كبيرة وخطيرة، حينما شهدت الرمادي معاركا طاحنة ضد قوات الاحتلال الامريكي وانتهت بسقوطها بيد (داعش) بعد ان حاصرها التنظيم لسنة ونصف فتعرضت لدمار كبير، فلم يسلم بيت او شارع فيها الا وأصابه شيء من الدمار، ولكنها عادت من جديد واستعادت عافيتها رغم كل ما مرت به من مآس ومحن.
وقفت متأملا في المكان وتسمرت قدماي فوق ارض الناصية، مستذكرا كل كلمة قالتها لي العرافة، ولكم تمنيت أن اجدها لأخبرها ان كل ما جاء في نبوءتها قد تحقق وصار واقعا باستثناء توقعها فيما يخص الخيول والغزلان والنساء، اذ لما كبرت وجدت نفسي محاطا بقطيع من الأغنام والصخول، فأينما أولي وجهي فثمة نعاج وسخلات وخرفان اجدها بوجهي، غير أن الاكثر ايلاما والأشد حزنا بعد كل هذه السنين أن (أخي مهدي) لم يعد ينتظرني كعادته حينما أعود له بالصحف!!.
***
د. محمد علي شاحوذ