نصوص أدبية
نبيه القاسم: أيّها المُتماوت قُم
كلمات إلى توفيق زيّاد في ساعة رحيله المفاجئ*
***
مُعلّقٌ على كرسيّ ما بين الأرض والسماء..
غفوة لحظات..
وانبسط شارعٌ أبيض مُعلّق..
تدفُّق دماء حمراء تصبغُ بعضَه..
وصحوتُ..
لتكونَ صورتُك تحتلّ جزءا صغيرا من شاشة التلفزيون والمذيع يتكلّم..
**
لا.. لا يا توفيق..
لا يا حبيبَنا
لا أصدّقُ.. لا يمكن..
وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل..
أيّها الفارسُ الذي أكبرناك
وترَسّمنا خطاك عشرات السنين..
أيّها الشاعر الذي كانت كلماتُك أوّلَ ما حفظنا..
أيّها القائدُ الذي كانت إشارتك كافية لتدفّقنا وراءك لخوض كلّ معركة..
أيها الإنسان الإنسان..
يا توفيق زياد
كيف يمكنُ أنْ يكون!!؟
**
يا أصدقَ الرجال..
يا فارس الفرسان..
يا الأمين على الرسالة..
على براقك الحديديّ أسْريتَ
تحمل في يسراك أريحا وفي يمناك غزة
وحدك انطلقتَ إلى مسراك القدسيّ
يحدوك اليقينُ والفوز والرسالة التي قد بلّغْتَ
**
قليلا تصل وقليلا لا تصل..
والقدس تناديك: إليّ أيّها النّاصريّ
وأريحا تناشدك: إليها خُذني..
وغزة هاشم تطلب: إلى القدس، خُذني.
والناصرة بقلب واجف تهمس: يا ولداه..
والقدس تُردد قائلة: إليّ تعال..
وأريحا: إليها خذني.. دثرني بتراب القدس
وغزة شامخة: للقدس طريقي...
وأنت تُحلّق على ظهر براقك الحديديّ
صرختك العالية تُفزع كلّ أتباع يهوشوع بن نون..
وضحكتك المجلجلة تحضن أعالي الجليل برمال النقب
لتُدغدغ في جانبيك أريحا وغزة هاشم..
وأنا يا ولدي أبكي..
أنا الناصرة ثكلى الولدين..
أبكي الولدَين..
أبكي الشهيدين..
في يوم زفافي.. في أحلى يوم..
**
ينشطرُ الشارع قسمين..
وخط الدم القاني يُفزعني
أتماوتُ رُعْبا
يُطالعني وجهُك أتجمّد
أسمع اسمَك.. يسحقني الموت
وأبكي كما لم أبكِ من قبل
**
يا فارسَ كلّ الساحات قُم
هذا يومك.. كلّ الأحباب حولك..
كلّ الأيدي تتلمّس قربَك.. كلّ الأرجُل تُهرول خلفك
قُم..
اصرخ صرختك المعهودة..
اضحك ضحكتك المحبوبة..
حرّك بيديك.. ببعض رموش العين..
هذي الساحات ساحاتك
كَرّمها بإحدى خطواتك..
أسْمعها آخر كلماتك..
ارفع رأسَك..
قُم..
يا حبّي قُم..
**
مَسْراك ومسرى من قبلك
وطريق القدس بعيدة
وطريق القدس قريبة
وبراقك يشدّ العَزم
**
"أحبّ لو استطعتُ بلحظة
أنْ اقلبَ الدنيا لكم: رأسا على عقب
واقطع دابرَ الطغيان
أحرق كلّ مغتصب
وأرقد تحت عالمنا القديم
جهنما، مشبوبة اللهب
وأجعل أفقرَ الفقراء يأكل في صحون الماسّ، والذهب
ويمشي في سراويل الحرير الحر والقصب
وأهدم كوخه.. واهدم كوخه.. أبني له قصرا على السحب"
**
كلماتُك هذه يا زيّاد..
كانت وستظل الإنجيلَ والقرآن
كلماتُك يا فارسَ كلّ الفرسان
يا خاتمَ رُسل الربّ في زمن الطغيان
تُنادينا..
تشدّ على أيادينا..
وتُبكينا.
مَنْ يُنشد بعدك يا توفيق نشيدَ الشعب..؟
مَن لعود الندّ يا شعبي..؟
سامحني..
أستلهم كلماتك..
"يا أغلى من روحي عندي"
يا توفيق..
"إنّا باقون على العهد"
يا فارس كلّ الفرسان..
صادِم حتى الموت في آخر يوم..
يا فارسَ كلّ الفرسان تبسّم..
اضحك ضحكتك المَحبوبة..
اصرخ صرختك المعهودة..
قُم.. أُحْدُ الآلاف من حولك..
أسمعهم آخر كلماتك..
بلّغهم أنّك قد بلّغتَ..
قد تمّمْتَ رسالتَك إليهم..
يا أكبر حتى من الموت.. قُم يا توفيق قُم..
أيّها المُتماوت قم..
ودعني أبكي.. وحدي..
دعني أبكي وحدي..
كما لم أبك من قبل..
***
د. نبيه القاسم
.......................
* ثلاثون عاما، وأعود إلى تلك اللحظة التي كنتُ أجلسُ فيها أمام جهاز التلفزيون أصلّح دفاتر امتحانات البجروت، أغمضتُ عينَيَّ لبعض الوقت من التّعب، وما كدتُ أفتحهما وإذا بابن عمّي سعيد القاسم يقرأ نشرة الأخبار ويتحدّث بحرارة حارقة وحزينة عن توفيق زياد، وفاجأني الخبر أنّ أبا الأمين فارق الحياة إثر حادث طرق، لم أستوعب الخبر، وتناثرت أمامي وحولي مختلفُ المشاهد، كلّها لتوفيق زياد في مناسبات وطنيّة واجتماعيّة، وكانت أنْ كتبتُ هذه الكلمات لأعز إنسان وأصدق وأنقى مَن عرفتُ.
* توفي الشاعر توفيق زيّاد إثر حادث طرق في طريقه من أريحا إلى القدس بعد لقاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مدينة غزة يوم (5-7-1994)
* نشر في جريدة الاتحاد يوم الجمعة 15-7-1994