نصوص أدبية
سنية عبد عون: مَنْ المسؤول؟
جئتك اليوم أحمل اسراري اليك وبؤسي وأشواقي مع كل سنة تسربت من عمرينا وهي تحمل بصمة اللاجدوى.
هزني الشوق اليك فأعذرني يا ملاكا يسكن روحي منذ الف عام شاهدة سنوات وجعي وخوفي من البوح الرخيص للآخرين. لمن ابوح وأشكو هذا الشوق والبعد وكلانا أمسى في واد سحيق، فموت الأماني لا يعني اللقاء.
هرب من ضجيج أحفاده وقرع طبولهم داخل رأسه المتعب بحكاياته القديمة وصوت التلفاز الذي لا يتوقف ساعة واحدة، وانشغال أبنائه بضروب الحياة، أعياه صراخ الباعة المتجولين. وروتين حياته بين النوم والطعام وكأنه حيوان مدجن داخل داره وأحيانا أخرى حارسا لأحفاده بعد خروج أمهاتهم لوظائفهن.
فقد الجزء الأكبر من ذاكرته بعد فقده لزوجه التي لم يكن يعشقها ولا يتمنى ان يتذكر تلك الأيام التي عاشها صامتا معها محافظا على كياسته وطريقة تعامله معها. فما ذنبها هي الأخرى حين أصرت أمه ان تكون هذه المرأة بالذات زوجا لولدها.
وما ذنبه هو وقد خسر قديما حبيبة صباه التي أقسم لها بكل مقدس لديه ان لا يفترقا الا بالموت لكنه لم يحنث هذا القسم العظيم ولم يحنث حبه الكبير داخل روحه.
وكذلك كان شأنها هي (حبيبة صباه)، كان وفاؤها يفوق التصور والخيال. أحبته ليس بقلبها بل بكل جوارحها وبأدق مسامات روحها انه حب من نوع خاص لا يجيده الا قلة قليلة من البشر. مثل حب جميل وبثينة أو حب قيس ولبنى.
لنتساءل اذن من المسؤول عن فراقهما.؟؟
ففي تلك السنين المرعبة يقولون هامسين، لا يسمح للطيور ان تغرد خارج السرب. مثلما لا يستطيع السمك ان يعيش خارج الماء وهكذا رجال ينتمون للسلطة أو الى وحدات عسكرية في الثمانينيات. والويل لمن يحمل نجماته اللامعة فوق كتفيه. والويل كل الويل ان لم يحصل على موافقة جهاز الاستخبارات العسكرية بشأن المرأة التي قرر ان يقترن بها. وصاحبنا لم يحصل على هذه الموافقة أبدا بحجة انتماء أحد اخوانها لحزب يساري معارض، وكان يعد ذلك بمثابة جريمة كبرى في نظر وحدته العسكرية والأهم من ذلك بنظر رأس الهرم الذي كان يحيي ويميت حسب ظنه.
وضاعت حبيبة صباه للأبد دون ان يعرف عنها أي خبر.
تزوج امرأة أخرى لا تعرفه ولا يعرفها ولم يرها الا بالنظرة الشرعية على حد قولهم. ولكن أصبحت بينهما رحلة طويلة مع السنين ومع ثلاثة ابناء فيما بعد، لا يحملون منهما سوى جيناتهم المشتركة. فأخذوا من أمهم زرقة عينيها واتساعهما. لكنه بقي دائما وأبدا يئن ويتحسر على عيني حبيبته السوداوين الصغيرتين. وورثوا منهما حالة الصمت وقلة الكلام.
ومع فقدانه للجزء الأكبر من ذاكرته خرج يوما ماشيا من داره بلا هدف معين ودون ان يتوقف للراحة أضناه طول الطريق الممتد والمتشابك مع طرق فرعية عديدة. فكان كل طريق يسلمه لطريق أكثر وعورة ولا يدري كم أستغرق من الوقت في مسيره ربما ليوم كامل أو ربما أكثر لا يدري. حتى وجد نفسه في مكان لا يعرفه ولم يمرّ به في سالف أيامه الماضية. صرخ بأعلى صوته مستغيثا دون ان يسمعه أحد ثم غاب عن وعيه .
في اليوم التالي استفاق من غيبوبته ليجد نفسه محاطا برجال غرباء لا يعرفهم ولا يعرفونه. تعلو وجوههم سمة الحزن والكآبة والغريب في الموضوع انهم من نفس فئته العمرية. وقد غزى الشيب رؤوسهم. فأغمض عينيه كي لا يسألونه شيئا.
استيقظ مرة أخرى ليجد أمامه ملاكا بثوب ابيض وتاجا بلون ثوبها انها ممرضة دار المسنين التي أوضحت له كل المشهد الذي أتى به لهذا المكان.. وأخبرته ان ادارة المشفى قد نشرت صورته مع صورة لهويته ليتعرف عليه أهله ومعارفه.
مرّ اسبوعان دون ان يسأل أحد عنه وهو مازال واجما دون ان يتكلم بجملة واحدة بل اقتصرت اجاباته بنعم أو لا.
وتهامس نزلاء الدار عن قصته وتساءلوا عن سبب صمته وحين يلتفون حوله مساء بادره احدهم أ. لك أولاد أم انهم تخلوا عنك ورموك في هذا المكان. ؟؟ يكتفي بنصف ابتسامة ساخرة من طرف فمه ثم يخلد للنوم.
وفي صباح اليوم الثاني حضرت امرأة أنيقة الملبس مهيبة بمشيتها ولا يمكن التكهن بعدد سني عمرها لما تمتاز به من لباقة الكلام ورقي الاسلوب وخفة الحركة في بحثها بين الغرف لتسأل عنه.قادتها ممرضة المشفى اليه.
أيها السيد :ـ ان هذه المرأة تبحث عنك. القت تحيتها ثم جلست فوق حافة السرير قريبة من قدميه.
أعتدل بقامته وجلس قبالتها وهو في حالة من الإرباك والخجل ثم بادرها قائلا:ـ من أنتٍ.؟؟ وماذا تريدين مني. ؟؟
ضحكت ثم قالت له:ـ ألا عرفتني بالله عليك. ركز نظرك مع نظري وستعرفني حتما.
هب واقفا وأحمرت وجنتاه وبرزت حبيبات العرق فوق جبينه فوقفت هي ايضا قبالته وبان الخجل على محياها مع رجفة خفيفة بيدها وهي تحاول ان تمسك حافة السرير وكانت تنتظر جوابه.
ساد صمت بينهما لدقائق. وهو مازال جامدا مثل التمثال لكنه ركز نظره على ملامح وجهها وقد اتسعت حدقتا عينيه لشدة دهشته وانفعاله وهي مازالت ايضا تنظر لوجهه تارة ثم تخفض ناظريها للأرض تارة أخرى وحاولت ان تتغلب على خجلها.
فصرخ بأعلى صوته باسمها. ثم تذكر كل شيء
فتجمعت شظايا اللهفة بضمة أيديهما في عز الحنين لذاك الماضي البعيد
***
قصة قصيرة: سنية عبد عون رشو