نصوص أدبية

صالح البياتي: المحاكمة

نودي على المتهم ك، تفاجأ الجميع برجلين بملابس سوداء، يجران جثة عارية، أوثقوها لعمود داخل قاعة المحكمة، سعل بقوة لتنظيف حنجرته من التراب؛ الذي منع صوته من الخروج للهواء، أحتج على تجريده من كفنه، وكشف عورته علنا أمام الحاضرين، صرخ:

- اليس عملاً معيبا كهذا، فيه اهانة كبيرة لإنسانيتي!

التفت الى السيدات الجالسات في قاعة المحكمة، وقال:

-    ألا يخدش ظهوري عارياً أمامكن الحياء!

لم يأبه أحدٌ لاحتجاجه، لأن صوته بالكاد هز طبلة اذن واحدة، وكان كطنين ذبابة خطفت عابرة.

بدأ المدعي العام بتلاوة التهم الموجهة للمتهم ك، طالب بعقوبة قاسية.

توجهت أنظار الحاضرين للمتهم ك، مطالبة بإنزال أقسى العقوبات به.

التفت اليهم المتهم ك، قال: أنتم مثلي ضحايا خدعة ما يسمى بالعدالة المعصوبة العينين، واليوم بوجودكم نزعت العصابة عن عينيها، واتضح للجميع أنها عمياء؛ حقيقة وليس مجازا، سنلتقي جميعا في يوم آخر، امام حاكم عادل... تذكروا ذلك .

عاد يواجه القاضي، معترضا على شرعية المحكمة؛ لأنها لم تعين محاميا للدفاع عنه، فلو كان حاضرا لرد تهمة الدافع من وراء الجريمة، ولأثبت أن اركان الجريمة المدعاة ضده ناقصة، وذلك لغياب ركنين اساسين آخرين، وهما السبب وتوفر الفرصة، ولما سأل المدعي العام المتهم ك: بماذا تفسر تواجدك في شقة الرجل الذي قتلته؟ أجاب:

- دعاني لزبارته، فجئته مساء ذاك اليوم المشؤوم، جلسنا نتحدث في غرفة الضيوف، إبتدرته معتذرا عن الخلاف الذي شجر بيننا، سألني: أنحن برأيك أصدقاء! فقلت فورا وبحماس: طبعا، وصداقتا قديمة. فتساءل: ألا يحتمل أن تنقلب فجأة الى عداوة! في تلك اللحظة التي سمعته فيها؛ شعرت بعطش شديد، فتناولت كأس الماء الذي امامي، ودون أن أقربه لفمي، اسرعت لأعيده لمكانه، غطيت بجمع أصابع كفي اليمنى، إبتسامة ساخرة كادت تفضح إشمئزازي من كلامه، قلت جائز في حالة واحدة ؛ عندما تكون الصداقة زائفة، ونفس الشئ ينطبق على الجسد الصحيح، عندما تهاجمه الجراثيم القاتلة، ويعجز جهازه المناعي عن الدفاع، عندئذ يحصل المرض وينتهي بالموت. فقام مهتاجا؛ وإتهمني بأنني خنته، بإفشاء اسمه للسلطات الأمنية، علما بأنه لم يشارك في أي مظاهرة، بينما واضبت انا في نهاية كل اسبوع ؛ بالمشاركة بالمظاهرات الإحتجاجية الصاخبة، التي عمت ارجاء البلاد التي نقيم فيها، وأنني قد تعرضت للإعتقال والتهديد بالترحيل، لكوني أحمل إقامة غير دائمية، في هذه الدولة الغربية، التي التجأت اليها، بينما هو قد إكتسب جنسية البلد وأصبح مواطناٌ، شهر مسدسه؛ فقمت لتهدئته. قال: انت حكمت على نفسك بالموت، وأطلق علي النار.

أشار ك الى مواضع الجراح الأربعة في جسده، لرصاصتين إستقرتا في الصدر بجوار القلب، وإثنتين كل واحدة منهما هشمت فخذا، أراد ان يطلق النار على الرأس فأخطأ، ربما أهتزت قبضته ونزلت للاسفل.

قاطعه المدعي العام: لكن التقرير الطبي أكد أن سبب الوفاة كانت مقذوفات نارية أطلقها البوليس في الهواء؛ لتفريق اعمال الشغب، ربما اصابتك بمقتل، وليس كما تدعي . رد ك، وهذه ربما كذبة آخرى، قطعا أنفي ذلك، المظاهرات كانت سلمية كما شاهدها العالم من خلال شاشات التلفاز، فكبف تحولت الى أعمال شغب! هذه كذبة أفتراها علينا البوليس، صديقي أتهمني بالخيانة، وأنتم تتهموني زورا بأني مشاغب ..

بعد أن انهى ك كلامه، قال كنت عطشانا جدا؛ حين سقطت صريعا، أتوسل اليك سيدي القاضي، أن تطلب لي كأس ماء، اريد أن اشرب، اشعر بعطش شديد...

لم يُستَجبْ لطلبه، أحنى راسه يائسا، ينتظر قرار المحكمة، فسقطت جمجمته بين قدميه.

أعلن القاضي رفع الجلسة للإستراحة، وبعد فترة وجيزة استؤنفت الجلسة، وصدر الحكم بسحب إقامة المتهم ك المؤقتة، وحجزه في مركز الأبعاد حتى موعد طرده من البلاد.

كان ك الحي بالروح المتأججة في جسده، قد أطفأ تلك اللية جهاز التلفاز، بعد ان سمع ورأى آخر نشرة أخبار منتصف الليل عن الفضاعات المرتكبة؛ في الأرض المنكوبة التي ينتمي اليها، أطفأ النور في غرفة الجلوس، وتلمس طريقه لغرفة النوم؛ بضوء هاتفه المحمول، إستلقى على فراشه، تراقصت أمام عينيه، صور ضوئية بالوان حمراء وصفراء، وارتعشت شرارت متطايرة في الفراغ، رآى في الظلام أشباحا بشرية، تهرب في كل إتجاه، الى لا مكان آمن تلجا اليه، وعمارات تخر الى الأرض؛ كأن كفا جبارة تسحقها، فتختفي الطبقة الارضية؛ تليها التي فوقها، الى ان تصبح أثرا بعد عين..

غفا ونام مقهورا، كان منسحقا الى درجة اليأس، وعندما صحا صباحا، تحسس جسده فحمد الله انه لا يزال حيا، لكنه لم يتعجب مطلقا، من الكابوس الذي رآه في المنام، وقال في نفسه، لا عجب ان يحدث هذا في الواقع لي او لأحد غيري.

***

قصة قصيرة

صالح البياتي - سدني / أستراليا

29 / 11 / 2024

 

في نصوص اليوم