نصوص أدبية

محسن الأكرمين: قُبْلة تعب وخوف

....حين تفحصت تالا عيون مناد العز النظرة، أوجست خيفة عن تعب الحياة البادية بالتمام على ملمح وجهه المرهق بهم الحياة. لم تتمهل بل ارتمت أنثى البحيرة بلا تفكير مكابرة على مقاس جسده، ثم احتضنته بالشد الطري، وبحب يخرج عن تكبيل طبيعة الامتلاك الأنثوية.

لم تتحرك ساعتها رغم مشهدهما المُنافر لطبيعة المكان في عوالم البداوة، بل تسمرت في مكانها وهي تجثو قياما على رؤوس أصابع رجليها علوا. لم ترفع نظرتها ثانية، بل بقيت ساكنة تتحسس حرارة اللقاء، و مدى صدق مشاعر دقات قلب مناد العز المتضاربة والمتهالكة مع إكراهات القبيلة المشعوذة.

كان مناد العز لحظتها سلطان زمانه، ومن عشيرة هارون الرشيد في حريم نساء العشق، داخل موانع قبيلة آيت أمياس، وعلى مشاهد من رؤوس أخوية الشر والفزع المتحركة بعرفية المقدس والمدنس. كان تقايس الأجسام بين تالا ومناد العز يماثل مشاهد من فيلم هندي. كان فضول روح استراق المشاهدة والتمحيص الدقيق لمآلات نهاية عناق تصالح الذات وقرينها الروحي. كان السؤال عن حب قد يجمع قبيلتين متناحرتين منذ الزمن القصي.

همس مناد العز بلطف عند مسامع تالا، ما بك أنثى البحيرة؟ ما بك وأنت ترتعدين خوفا؟ لم تعر تالا سؤال مناد العز بدا من الإجابة المستفيضة، بل تابعت احتكاكها الجسدي، ونهمها في ملاطفته على مسامع ورؤية القوم. خوف مناد العز على تالا من إرهاق نفسها المكهربة، ومن تفريط زيادة التعب بقولها: (أنا عييت مناد)، جعله يتوسد جلوسا على الأرض، ويدنيها بالقرب من عيونه، ومسمع دمعات العشق والتعب والفزع من ذاك المستقبل الخفي في ظل تحركات أخوية الشر القاتلة.

تحكي تالا وهي تسند عيونها رؤية للأرض المنبسطة بينهما، شدة حبها لمناد العز، تحكي عن الخوف الذي بدا يتزايد عندها من شدة كوابيس أحلام، وحلم دائم يتكرر عندها كل ليلية قمرية. تقول: أنها ترى (الكرمة/ شجرة التين) تحترق بما تحتويه من مفسدات الشعوذة والخرافة، ترى يد مناد العز تشتعل نارا، ولا أحد من القبيلة يُقبل على المساعدة، وإطفاء النار التي تلتهم جسده.

ابتسم مناد العز من هذا الحلم الفطري، ولم يُعلقْ عليه بالتحليل، ولا بالشرح، ولا بالتفسير بمرجعية كتاب ابن سيرين، بل قال: العلم عند الله، وبه المستعان، ثم سمع من تالا قولها: ونعم بالله العلي القدير....

في شط البحيرة النيرة بمياهها الباردة، ارتمت تالا غطسا، وتحركت عوما مسرعا بلا مجاديف مساعدة. كان مناد العز الذي لم يقدر يوما على المغامرة في العوم بمياه البحيرة متحمسا للحاق بأنثى البحيرة، ولو للحظة واحدة تحل فزعه من مكونات البحيرة الداخلية، وفي لحظة سريعة، وبلا تفكير مسبق، ارتمى في الماء البارد، لكنه فزعه بدا يزيد، مما جعله يُعلي من صوت صياحه، ومن خوفه المتجدد بالتكرار كلما اقترب من البحيرة. خرج مناد العز مسرعا واتمى على الشط الندي. حين لحقت به تالا خوفا، بدأت تمتص شيئا من خوفه وفزعه الملتصق لزاما بماء البحيرة المتغير الأطوار، علمت بما شاهده من جماجم عند قاع البحيرة العميق، علمت من حكيه المتقطع بالنفس السريع الضيق"كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ/ قرآن كريم"، أن تلك الأرواح الفوضوية تناديه لإحداث الخلاص، ومعاقبة الظلمة من أخوية الفزع. علمت منه أن يدا تشدها أشواك تحاول مرارا خنقه وقتله داخل البحيرة الخرافية...

***

محسن الأكرمين

فصل من رواية: عندما يعود الرجال

في نصوص اليوم