نصوص أدبية
محمد كريم الساعدي: صانع الأشياء الأصم
الوهم في صناعة عالم جديد
نص مسرحي ما بعد كولونيالي
***
اللوحة الأولى
(بقعة وسط المسرح... صوت دعاء غير واضح الصوت وكأنه ينبئ بالفجر يتخلله صوت الدعاء وضجيج متصاعد.. يتخلله صراع أصوات متداخلة كثيرة تتقاطع بكلمات غير واضحة أسمع.. لا تسمع... أسمع... لا تسمع تتصاعد الضوضاء إلى تُقطع بضربة قوية وكأنها تحول المكان إلى فراغ يعمّه الصمت المطبق)
صانع الأشياء الأصم : (ينهض وهو يعيش حالة من الدهشة العميقة للفراغ الذي حوله)
ح... احا.... حا.. أه آه آه أه أصوتي يخرج من فمي؟
لكني لا أسمعه..
حا حا حا.. آه آه آه.. ما هذا الفراغ الذي يملأ المكان؟
الأشياء موجودة ! لكنها صامتة (ينهض ويبحث عن أي شيء يثير الصوت.. يضرب كل ما حوله علّه يثير صوتاً يكسر الصمت المطبق)
هَي..هٍي.. هو هي .. يا أشيائي التي عاشرتني منذ ولادتي كان صوتكم معي، أجيبوني، حتى وأن كانت الإجابة بضربةٍ على رأسي أو جسدي.
(يضرب نفسه بقوة وباستمرار حتى يسقط على الأرض..يعقب ذلك صمت لبرهة من الزمن ثم ينهض)..
كل الأشياء صماء مثلي لا تستطيع أن الإجابة..
(بذهول يصاحبه دهشة ثم صمت... بعدها يضحك بصوت عالي وكأنه وجد الإجابة عن تساؤلاته)
بالتأكيد، فهي لا تسمع !.. ومن ثم، فالسمع يحتاج إلى كائن مثلي
أي نعم مثلي... كائن بشري.. بشري.. بشري.
(يضحك بسعادة) وجدت الحل (بثقة زائدة).. أنا لست أصماً ـ
بل الأشياء من حولي صماء...
كم كنت غبياً حين تصورت أنني لا أسمع.. الحقيقة هي أن الأشياء هي التي لا تتكلم ولا تسمع
(يمسك بأشيائه المختلفة من أجل استنطاقها.. يضعها على إذنيه ويحاول أن يحاكي أصواتها)
اعتقدت أنكِ تتكلمين هكذا خخخخخ،
أو هكذا بم بم بم...
أو هكذا طاق طاق طاق..
أليس كذلك؟، (يعيد ضرباتها على رأسه بلطف)
لكن لا خخخخخ ولا بم بم بم، ولا طق طق طق..
(بحزن وكأنه يتذكر مشكلة السمع لديه)
ألم أقل لكم يا أشيائي أنكم لا تستطيعون الكلام مثلي ولا تستطيعون الكلام معي.
(يحاول أن يقنع نفسه بأن المشكلة في الأشياء.... يثور بحركات هستيرية) أنتم الذين لا تسمعونني ولا تتكلمون معي.
أنتم تعارضونني وتحتجون علَي..
تطلبون مني طلبات تعجيزية.. أنا لا أستطيع أن ألبي رغباتكم ومن ثم فإنكم تعصون أمري بفعلكم هذا... وتخالفون سلطتي عليكم
هذه السلطة التي أوجدني عليها من أوجدني. لهذا السبب تتظاهرون بالصمم وحتى بالعمى.
وهذا أسلوب جديد في المعارضة ضدي، أي نعم ضدي.
أنتم بالضد مني ومن سلطتي.
إذاً انتظروني سأضع شروطي عليكم حتى تتكلموا معي ولو بالقوة، نعم القوة هي الحل الوحيد، لأن العقل لا يفيد في هذا الزمن.
تسلبونني أهم مقومات سلطتي في معرفة الأشياء، هي سلطة السمع كما هي سلطة البصر، هل فهمتم؟
أنا لا أتنازل عن سلطة السمع مهما كلفني الأمر.
اللوحة الثانية
(يبدأ بترتيب بقايا الحطام الغرفة على شكل جمهور.. يقف على مكان مرتفع في أحد زوايا المسرح ليلقي خطابه على الأشياء حتى يلزمها بالطاعة)
صانع الأشياء الأصم: أن سأرتقي منبري حتى ألقي خطاباً عليكم.
من يريد أن يغادر عالمي فليخرج من الغرفة فوراً
ومن يؤيدني ويعظم مكانتي السمعية والبصرية لديه
فلينصت لخطابي المهم وسأوضح فيه علاقتي مع شعبي
(ينزل من المنبر وكأنه يناقش الأشياء)
خطابي يا أشيائي سيكون باللغة المشتركة بيني وبينكم وما عليكم إلا السمع والطاعة.
(يعود إلى المنبر) يا أشياء غرفتي المجيدة
المجيدة عليكم وليس على غرفتي..
(ينظر إليهم بعدم الرضا)
ها لا تقبلوا ذلك.. طيب أعيد ترتيب كلمات الخطاب..
يا أشيائي المهمة في غرفتي المجيدة..
أنتم الأشياء المهمة وغرفتي هي المجيدة..
ماذا؟.. لا تفقهون شيئاً مما أقول...
طيب سأعيد الخطاب عليكم لكن هذه المرة بلغتكم أنتم..
يا أشيائي في الغرفة طق طق طق طق حا حا حا بم ببمم طاق
.. طاق ططاق ببم طاق طاق حا حا حا..
(يبتسم ابتسامة عريضة.. وينزل اليهم)
لماذا لا تصفقون ولا تهتفون، أعطيتكم امتيازات كثيرة
منها حرية تكوين أشياء أخرى في داخل الغرفة ولكن ستكون لخدمتي أيضاً (بضحكة فيها نبرة الانتصار)
والتكوين يعني أن نصنع من أشلائكم المقطعة بسبب غضبي أشياء أخرى تدخل في خدمتي.
مثلاً نصنع من قدم الكرسي ألة للأنجاب.
أو دمية صغيرة تسليني وتذكرني بطفولتي التي لا أذكر عنها شيئاً أصلاً
أو نصنع منها فوهة بندقية نحارب بها العدو الذي يريد أن يمنعكم من السعادة بي وبرؤيتي كل لحظة.
دعوني أكمل لكم امتيازاتكم في خطابي المُلهم لكم
(يعود إلى منبره مرة أخرى)
يا أشيائي السعيدة برؤيتي
(مع ابتسامة عريضة)
بم ببمبم طاق طاق حا حا حا..
طاق طاق ططق طقق طاق حا حا بم بم...
حا حا طق طقق طق طق بم بم بم..
هل أنتم موافقون.
(يكررها ثلاث مرات)
يبدون أنكم موافقون على الإضافات الجديدة
هي لكم أيضاً وستجعل أيامكم سعيدة جداً جداً جداً.
ولآن رددوا معي قسم السمع والبصر والطاعة وقولوا
(يجلس معهم ويضع يده على صدره ويتوجه إلى المنبر)
يا قائدنا في غرفتنا المجيدة نحن نسمعك ونراك وأصواتنا كلها في إذنك
وأنت تسمعنا جيداً وترانا جيداً
ونحن الذين لا نسمع شيء من الأصوات إلا صوتك... ولا نفقه من الكلام إلا كلامك...
أنت من لديك الإحساس الكامل
ونحن لا نسمع إلا بأذنك ولا نرى إلا بعينك.
(يلتفت إلى الأشياء وكأنه يعلن الحقيقة)
والآن عدت إلى طبيعتي، أنني أسمع ولأشياء هي الصماء.
اللوحة الثالثة
(يخاطب الأشياء وكأنه يخطط إلى تكوين شيء منهم... شيء يكون واسطة بينه وبين الأشياء)
صانع الأشياء الأصم: يا أشيائي الجميلة،أنا لا يرضيني أن أراكم مختلفي الاشكال
فلا بد من توحيد أشكالكم وأصنف تكويناتكم
وأن تكونوا معي في غرفتي حتى لا يخرج أحدكم خارج الغرفة
ويخبر العدو عن طبيعة حالتي السمعية
ويستغل أحدكم لتنفيذ مآربه وتسقط الغرفة تحت يديه.
(يتقدم إلى الأشياء ويصنع منهم دمى من خلال إلباس أغطية تحولهم إلى هيئات قريبة لشكل البشر)
ولآن أصبحتم على هيئة واحدة، وأستطيع أن أعرفكم كلكم، نعم نعم هذا جيد..
ولكن هيئاتكم قريبة من بعضها البعض.. بماذا أميزكم..
أسميكم أسماء مختلفة.
في الحقيقة هي مشكلة كانت هيئاتكم مختلفة فجعلتكم في صورة أخرى،
ومن ثم توحدت أشكالكم، لابد أن أفرق بينكم مرة أخرى.
(يشير بيده اليمنى إلى الشكل الأول)
أنت أسميك نضال..
لا لا لا نضال وتناضل ضدي؟ لا، أسميك مطيع
نعم مطيع أسم جيد، وأنت أسميك خاضع نعم تخضع لي.
وأنت أسميك متردد تخاف من الأقدام على شيء
وأنت اسميك أخرس كي لا تسمعني
وهكذا الأشياء البقية اختاروا لكم أسماء تدلل على الطاعة
ولا تخرجوا عن طاعتي أفهمتم؟.
ولكن بقي شيء آخر مهم من منكم الذكر ومن منكم الأنثى.
هذه مسألة تحتاج إلى تفكير، هل أجعلهم كلهم أناث.. أم ذكور؟،فإذا جعلتهم ذكوراً وإناث سيتكاثرون ومن ثم سيثورون علَي!
لا لا سأجعلهم كلهم ذكور وهو الأسلم حتى يحمونني في الحروب
(يفكر بعمق مع فتح عينيه بشكل واسع)
ومن يؤنس وحدتي إذاً؟ ومن يعد لي الطعام؟
والذكور دائماً يحلمون بالسطلة وأخاف أن ينقلبوا عليّ!
لا لا لا نجعلهم كلهم أناث فكرة جيدة
فهن ضعيفات البنية ولا يستطعنّ الانقلاب عليّ
ولكن أخاف أن لا أكون كافياً لكل النساء في غرفتي المجيدة
ومن ثم يثورن عليّ ويأخذن مكاني، ماذا أصنع؟.
(يفكر في الغرفة وهو يسير في يمينها وشمالها... وكأنه يجد فكرة جيدة)
نعم..نعم.. نعم أحسنت أيه المفكر الخالد
فكرتي أن أجعلهم أناث وذكوراً في نفس الوقت.
أو كما قرأت في كتب.. في كتب... في كتب لقد نسيتها
آها كتب النوع، النوع، النوع الأشيائي نعم أسميه النوع الأشيائي.
جعل كل واحد منهم ذكراً وأنثى، حتى يصبح مزدوجي الاستخدام
فلا يتكاثروا...
ولا ينقصوا...
ولا يتزاوجوا...
ولا يكون لديهم الحرية في تحديد جنسهم إلا من خلال حاجتي فقط.
كم أنا مفكر عظيم، وأجبرهم على التسميات وتكون لدى كل واحد منهم تسمية مشتركة بين أسمين:
فالأول أسميه مطيع ومطيعة..
والثاني أسميه خانع وخانعة..
والثالث أسمية متردد ومترددة
وهكذا بقية الأشياء في غرفتي، حتى يتوحدوا تحت سلطتي نوعاً وشكلاً وهيأة.
(يوجه الكلام لنفسه) شكراً لك يا مهندس العالم ومخطط الجنس الأشيائي في عالمك الجديد وغرفتك المجيدة.
اللوحة الرابعة
(يرتقي المنبر ويجعل منه كرسي الحكم.. وينادي على أحد الأشياء بأن يتقدم إليه حتى يتكلم معه)
صانع الأشياء الأصم: هه.. هه... هه.. أنتِ، أو أنت، أو أنتِ وأنت في الوقت نفسه
سواء أكنت ذكراً أم أنثى تعال وحدثني..
أوه لا يسمعني نسيت أن الشعب في غرفتي لا يسمع وأنا الوحيد الذي أسمع
(ينزل من عرشه، ويمسك بأحد الأشياء في الغرفة، وكأنها دمية)
نعم أنتِ أو أنت لا تسمعني أكيد لأنك أصم، وأنا الوحيد الذي أسمع هنا
تعال معي كي نتداول بأمور الأشياء الأخرى..
وبعدها نسمع الموسيقى سوية، قصدي أسمع الموسيقى لوحدي
وأرقص عليها، وأنقل لكِ أو لك المشاعر يا أيه النوع الأشيائي
(يضحك) جميلة هي كلمة النوع الأشيائي
سأقول لك شيئاً، أننا هنا في عالمنا الجديد أقصد غرفتي المجيدة نمنع الحركة الزائدة، أنا الوحيد الذي أتحرك وأحرك الأشياء من حولي.
فإذا توقفت، لا تستطيعون أنتم الحركة..
وهذه قضية عويصة ومسألة شائكة لا تستطيعون أن تفهموها هنا
لأنني أنا الوحيد الذي يفهم، فلا تفكروا بأي حركة حتى أحرككم، هل فهمتم؟.
(يهز أعلى الشيء وكأنه يهز رأسه بالموافقة)
إذن أنت موافق، وهذا جيد، وهيا إذن لنتحرك على شكل رقصات خاصة مع الموسيقى التي سأشغلها في مذياعي
أتعلم أن هذا المذياع هو من نقل لي سابقاً أخبار الغرف الأخرى غير المجيدة
أين مذياعي حتى أشغل الموسيقى التي أحبها في أحد المحطات الأجنبية
وهي من أوصلت لي سابقاً فكرة النوع البشري
أو الاجتماعي كما يسمونه
لكني لا أخفي عليك أنا طورتها في غرفتي المجيدة وجعلتها تنطبق عليكم
لا بل أجبرتكم عليها برضاكم أم من غير رضاكم
كوني أنا من أحرككم، وأنا من أسمعكم، وأراكم
أكيد أنت أو أنتِ متفق أو متفقة معي كونك أو كونكِ نوع أشيائي
ومن حقي أن أختار هيئتك أثناء حديثي.
طيب لأبحث عن مذياعي أين يكون في وسط هذه الأشياء في غرفتي المجيدة
(يبحث بين الأشياء.. وبعد البحث يجده في زاوية الغرفة المظلمة)
من وضعك في هذا المكان أكيد يوجد مجرم أو عميل في الغرفة يريد أن يخفيك عني حتى لا أسمع أخبار الغرف الأخرى غير المجيدة
أنها مؤامرة لكني سأقبض على المتآمرين وأمنعهم من أن يكونوا أشياءً في غرفتي المجيدة.
اللوحة الخامسة
(يضع المذياع على منصة قرب منبره ويشغله ويذهب إلى الشيء حتى يرقص معه)
صانع الأشياء الأصم: هيا يا صديقي أو صديقتي لنرقص
وهيا يا أشيائي في الغرفة المجيدة أرقصوا
فإنه يوم فرح من بعد أن أثبتنا وجودنا هنا، أكيد أنتم فرحون.
(الموسيقى تعزف لكنه لا يسمعها)
لماذا لم تشتغل الموسيقى؟.
ياله من مذياع قديم فهو لا ينتمي إلى الأشياء الصماء كونه ينطق
ولا ينتمي إلي كوني أتحرك وهو لا يتحرك
هذا نوعٌ ثالث يجب أن أجد له حلاً في المستقبل
لكنه لماذا لا ينطق ويسمعنا الموسيقى
(يرجع إلى المذياع ويقلب به المحطات المختلفة لكنه لا يسمعها)
أكيد قد تعطلت لماذا لا تذيع لنا الموسيقى والأصوات العالية
أليس فيه طاقة تشغله؟.
(يقلب به فلا يسمع ... يتساءل )
فيه ضوء يدلل على أنه يعمل
وفيه حركة قليلة إذا وضعته على سطحٍ مستو.
ماذا يعني هذا؟، هل أنا لا أسمعه؟.
هل كشف هذا المذياع عورتي التي أحاول جاهداً أن أخفيها؟.
أم هي مؤامرة من الأشياء على النظام في غرفتي المجيدة؟.
(يتوجه إلى الأشياء بطريقة هستيرية ويبدأ يضربهم ببعضهم البعض)
هيا أجيبوني، هل أنا أصم وأعيش في فراغ؟.
أم هي مؤامرة منكم علي؟.
(يبدأ ببعثرة الأشياء)
سأكشف عرواتكم جميعاً وسأنهي على مستقبلكم في غرفتي المجيدة
تباً لكم ولوجودكم في حياتي.. ما زلت أنا الذي يحرككم.
وأنا الذي يسمع أصواتكم، ويعلم بمؤامرتكم ضدي
إذا تريدون التحرر من سلطتي
هيا تحركوا أمامي، أو نطقوا مثلي
نعم أنها مؤامرة
مؤامرة من الغرف الأخرى
يقودها مذياعكم ضدي
(يصرخ بأصواتٍ عالية مع دوران في الغرفة، وصوت المذياع عالي حتى يضع يديه على اذنيه ويسقط أرضاً)
انتهت
***
تأليف: محمد كريم الساعدي
15-2-2024