نصوص أدبية
ناجي ظاهر: الصرصار المُطرب
صرير ضيفها الصرصار، وراء الغسّالة، في غرفة الغسيل الصغيرة، جعلها ترى الحقيقة في واقعها المؤلم. جسد زوجها الملقى على السرير إلى جانبها، جعل الليل عبئًا ثقيلًا، أثقل منه في أي ليل سابق، وجعل من الخروج إلى غرفة الاستقبال، للاقتراب من ذلك الضيف، للاستماع إلى صريره وإلى مواساته لها من الوحدة، مهمة لا بدَّ من القيام بها وتنفيذها للتو.~
بعد ثوان، حملت جسدها، كأنما هو جثمان ميت يسبح في سديم الكون، وانطلقت باتجاه، غرفة الاستقبال، في طريقها القصير الطويل إلى هناك، وقع نظرها على ابنتها الصبية، ابنة العشرين، كانت ابنتها نائمة، لولا وجود ابنتها في البيت، ولولا حاجتها لأب يحدب عليها ويرعاها، لما سمحت لذاك الثقيل، زوجها، أن يأتي إلى البيت مرة في الأسبوع، ولاكتفت بالصرصار، بصريره وبمواساته لها.
ذاك الضيف، وراء الغسالة في الغرفة الصغيرة، اختفى في البداية مثل زائر ثقيل، لا ليس ثقيلا، ابتدأ عهدها به، ليلة صحت على صريره، إثر مغادرة زوجها للبيت قبل أشهر.
حين شعرت بوجوده بحثت عن قبقاب خبأته في الجوارير القديمة، حتى وجدته. هرعت بعد ذلك إلى الغسالة فأزاحتها، لسحق ذاك الضيف غير المرغوب به، إلا أنه كان أكثر ذكاء وحنكة، فقد زاغ منها، وانسرب...
في الليلة التالية، شرعت في إغلاق أذنيها بما توفَّرَ من قطن في البيت، غير أن الصرصار أبى إلا أن يرسل صريره مخترقا الليل.
فكَّرت في أن تشرب حبة منّوم، كما كانت تفعل حين كان زوجها حاضرا غائبا. بيد أنها ما لبثت أن طردَت هذه الفكرة، وتبنَّت فكرة أخرى، متمردة على المجهول، كما فعلت دائما. الفكرة الأخرى، تمثلت في الاستماع إلى صرير الصرصار. لماذا هي لا تستمع إليه؟ لماذا لا تستمع إلى ما يبثه في الليالي الطويلة الموحشة؟ ألم تدرك منذ فتحت عينيها حتى بلوغها ما بلغته من عمر، أنه يوجد لكل شيء سبب، وبالإمكان التوصُّل إلى أسراره بشيء من الأناة؟ فلماذا لا تستمع إلى الصرصار؟ لماذا لا تحاول أن تفتح أذنها، ولماذا تغلقها أصلا، ألم تغضب يوم فضل زوجها النوم على الحديث معها، فأشعلت الدنيا نارًا لم يخبُ لها أوار، إلا بدفعِهِ إلى خارج البيت، على أن يعود مرة واحدة في الأسبوع؟ لماذا هي تغلق أذنها أمام الصرصار؟ وكأنها ملأى بالطين؟ أو ليس من الأفضل لها أن تستمع إليه، فإما يعجبها صريره، وإما تمجُّه أذنها، فتجد له علاجا يشبه ذاك الذي عالجت به زوجها؟
في الليلة الطويلة التالية، شرعت بالاستماع إلى الصرصار. أعطت نفسها كلَّ ما ملكته من إمكانية على الإصغاء. استسلمت لسماع صوته، مثلما يفعل العاشق المتيَّم حينما يستمع إلى صوت محبوبته. استمعت إلى الصرصار، استمعت إليه بكل ما لديها من قوة متبقية. مهلا.. مهلا ابتدأت تألف صريره، بات صريره في فترة قصيرة، أو طويلة، لا تدري، جزءا من ذاكرتها، بل أكثر من هذا باتت تنتظر الليل كي يأتي، كي تستمع إلى ضيفها المرحَّب به، وإلى صريره الشبيه بالغناء. هي لا تبالغ إذا قالت إنها وجدت أخيرا معزوفتها بعد طول انتظار.
الليالي بعد وفود الصرصار، بعد إقامته وراء الغسالة، باتت ذات رائحة، نكهة ولون، هكذا راحت لياليها بالتغيّر.
وطرق الأمل بابها مجددا، فراحت تهتم بنفسها، ترتدي أحلى ملابس النوم، بانتظار صوت صديقها وراء الغسالة، ولم يكن هذا يخلف ميعاده معها. كان ما إن يرين الصمت النائم على أرجاء البيت، حتى يرسل صريره موقظا أجمل ما في المرأة وأحلى ما في الليل. وكانت المرأة تحاول المحافظة على الصمت، محافظتها على روحها، وزاد في محافظتها هذه، أنها أحست أنه يوجد بالصَّرصار مثل ما بها، وأنه يطلب طوال الوقت ويسأل من يحلّ وثاقه، كأنما هو يحكي بلسانها، ويطالب بحقه في الحياة والصرير، وكأنما هو يطالب بهذا الحق لكلِّ من ينشده، ويهفو قلبه إليه!!
هكذا بات صديقها، سلوتها الأساسية، بل إنها مع مضي الأيام، باتت تعرف كيف تدفعه إلى الصَّمت، كي يستمع هو إليها، فما أن تنهض من مجلسها، في غرفة الاستقبال، حتى يتوقف، عن الصرير، وتشرع هي في التحدث إليه: اسمع جيدا، أنت الوحيد الذي يستمع إليَّ بكل مشاعره وأحاسيسه، ويعرف كم أنا بحاجة إلى زوج، حظ اليقظة لديه، أكثر من حظ النوم. أنت الوحيد الذي يُحيي حياة توشك أن تموت في داخلي. أنت من يستمع إلى شكواي. أنت مَن أناجيه ومن يناجيني، من يسمعني حين أكون وحيدة ومن يستمع إلي حينما أريد. كان صديقها يستمع إليها، وكذلك هي، لا يقاطع أحدهما الآخر وينتظره حتى ينهي كل ما لديه. لم يكن يقاطعها، فيضع الكلمات على لسانها كأنما هو لا يريد أن يستمع إلى غير ما يريد أن يستمع إليه، ولم يكن ينظر إليها شزرا حينما تتحدث عن شؤونها الصغيرة، لم يكن يلغي مسافة الصمت المطلوبة بين أي متحدثين، بل كان يصمت، وكأنما هو لا يريد أن يستمع إلى أي إنسان آخر سواها في الكون.
حينما كان هذا كله يحل بينهما، كانت تبدو وكأنما هي المرأة السعيدة الوحيدة على الأرض، فكانت عيناها تفيضان بمحبة لكل شيء، مكتسبتين لمعة كادت أن تخبو وتتلاشى.
مع الوقت ابتدأت تعتاد على تهيئة الجو وإعداده، ليكون ملائما للقاء الفريد بينها وبين صديقها، فكانت تشعل شمعة ينبعث منها نور خفيف، وتطفئ الضوء، فينتشر جوّ شعريّ ساحر، يدفعها للاسترخاء على أريكة وضعتها خصيصا في غرفة الاستقبال. وما إن كانت تضع رأسها على وسادة وثيرة وضعتها في أقصى الأريكة، على يدها تحديدا، ما إن كانت تمضي لحظات من الصمت، حتى يبادرها صديق الليل بصريره المألوف، الأثير على روحها القريب من قلبها. فكانت تغمض عينيها وتستمع إليه بجوارحها كلّها، وكان صريره ينهال عليها وكأنما هو نهر من زبرجد، فتمدّ يدها مرحّبة به ومهلّلة.
أمّا حينما كانت تريد أن تتحدث، أن تعبّر عمّا بها، فما كان عليها إلا أن تتحرك على أريكتها، فيصمت الصرصار، منتظرا أن تفيض نفسها بما اضطرتها حياتها إلى جانب زوج غير متفهّم، من مشاعر وأحاسيس، هي لم تكن تبخل على صديقها، ولم تكن لتخفي عنه أية صغيرة أو كبيرة، وإنما كانت تصارحه بكلِّ ما في دخيلتها، بل إنها كثيرا ما كانت تنسى نفسها، فتصارحه بما خجلت أن تقوله أمام أي من الناس، وربما أمام ذاتها. هي نفسها، لم تكن باختصار تتردَّد في أن تفكَّر أمامه بصوتٍ عالٍ، وكان أشدّ ما يسعدها هو أنه كان يستمع إليها بخشوع أشبه ما يكون بخشوع راهب تمنَّت أن تلتقيه وهي ماضية في صحراء حياتها.
ونشأت مع مضي الوقت، لغة مشتركة بين الاثنين، لا يفهمها سواهما، كانت أشبه ما تكون بلغة عاشقين عرفا طريقهما.
*
استلقت المرأة، صاحبة البيت، على أريكتها في غرفة الاستقبال. وضعت رأسها على وسادتها الخاصة، هيأت الأجواء كلَّها، بما فيها إشعال شمعة خفيفة النور، واستلقت تفكر في زوجها الغائب هناك في غرفة النوم، حتى في يوم مجيئه الوحيد في الأسبوع، ها هو يناغي الكرى، ويتركها وحيدة مثل كتلة تائهة تسبح في سديم الكون، ها هو يوغل في سباته، وها هي توغل في يقظتها، ها هما يفترقان مجددا، وها هو كل لقاء يتحوّل إلى ظل للقاء، لا معنى له.
تحركت على أريكتها. رفعت صوتها هامسة بما بها. اقتربت من غرفة الغسيل. أدنت رأسها حيث تعرف أن صديق ليلها يقبع بانتظارها، وراحت تحكي عمّا بها من ألم.
في تلك اللحظة شعرت بزوجها يسير باتجاه الحمّام. كان واضحًا أن حاجته أيقظته، وأنه سيعود بعد قليل إلى نومه. توقَّف عند باب الحمّام، سألها عمَّا إذا كانت تريد أن تنام، ولم ينتظر إجابتها. دخل إلى الحمّام وأحكم إغلاق بابه وراءه. بقيت هي وحيدة بانتظار صديقها المنتظر، ليبعث صريره شاقا صمت البيت، ومواسيًا إياها في وحدتها الرهيبة.
***
قصة: ناجي ظاهر