نصوص أدبية
مصطفى علي: كأسٌ من زَبَدِ الذكريات
وَقَفَتْ تُحَدِّقُ ذاتَ أمْسيَةٍ
لها عَبَقُ الخريفْ
*
تَتَصفّحُ السَنَواتِ هارِبةً
في قلبِ مِرآةٍ لِذاكرةٍ بَعيدهْ
*
وَكَلونِ أوراقِ الخريفِ
تَلوَّنَ القِدّاحُ بالحُزْنِ الشَفيفْ
*
وَفُؤادُها المكلومُ غَنّى
للبراعمِ بعدما شاختْ نَشيدَهْ
*
مَسَحَتْ عَنِ المِرآةِ آثاراً
لِأقدامِ السنينْ
*
وَكَأنّها تمحو ضباباً عن جبينِ اللوحةِ الأولى
كما يَجْلو ضياءُ الدهْشةِ الكُبرى
رَذاذَ الشَكِّ عن وَجْهِ اليَقينْ
*
وَ عَلى سَنامِ الريحِ هوْدَجُها
تَخَضّبَ باللظى شوقاً وَحِنّاءِ الحَنينْ
*
وَمَضى بها يَعْدو الى أبْهى بَواكيرِ الصِبا
وَصدى القُدامى الطيّبينْ
*
تَسْترْجِعُ الأسْماءَ جاهِدَةً فَيوقِفُها
قِطارُ العُمْرِ في أولى مَحَطّاتِ السَفَرْ
*
وَتَخافُ من غَبَشِ المَرايا
إذُ يُكدِّرِ بُرْهَةً صَفْوَ البَصيرةِ والبَصَرْ
*
حَيْرى تُفتّشُ عن رُسومِ العابرينْ
بأوائلِ المشوارِ صمْتاً في سَرابِ الذاكِرهْ
*
قَسَماتُهُمْ خَجْلى كَنَبْضِ قلوبِهمْ
أمّا الخُطى فَخَجولةٌ كَطِباعِهمْ أو عاثِرَهْ
*
وَلَهم عُيوبٌ أو خَطايا رُبَّما
غَطّتْ على ما في النَوايا والسَليقَةِ من دُرَرْ
*
فَلْتَصْقُلي المرآة ثانيةً فقد
يُجْدي التأنّي في التبصُّرِ والحَذرْ
*
وَتَكادُ تسألُ عن مَزايا السائرينَ
على يَسارِ المُنْحَنى دونَ بَريقْ
*
مُتَفَيّئينَ ظِلالَ سِدْرَتِها العتيقةِ
قُرْبَ ناديها العَريقْ
*
مُتَأمّلينَ بَهاءَ طَلَّتَها بِكامِلِ سُنْدُسِها
كَفراشَةٍ تهوى الرَحيقْ
*
هي لا تَعي شَغَفِ البداياتِ البريئةِ
للهَوامِشِ عندَ مُنْعَطَفِ الطَريقْ
*
فَرَصيدُهمْ زَوّادَةٌ مَلْأى بِحِسٍّ مُرْهَفٍ
وَهَوىً بِدائِيٍّ صَموتْ
*
لو أعْلنوهُ للندى حتى تَفَشّى سِرّهُ
من قلبِ حامِلِهِ يَموتْ
*
طَبْعُ الهوى الريفيِّ ياريحانتي شَرِسٌ
إذا مَسَّ البواطِنَ والشِغافْ
*
تَتَصدّعُ الأعماقُ بلّوراً
وتشتعلُ الجوانحُ والضِفافْ
*
بِنَبيذِ موسيقى الجوى
وَغرامِ أنغامِ القوافي والأغاني والجمالْ
*
فَهُناكَ تَمْتَلأ الخوابي والدِنانْ
بِسُلافَةِ العُشّاقِ صافيَةً
وتمتلأ السِلالْ
*
بالمَنِّ والسلْوى رُؤىً
وَثِمارِ أنهارِ الحقيقةِ والخَيالْ
*
هِيَ لم تَجدْ في لُجّةِ المِرْآةِ إلا
صورةً لِملامحِ الوَلَدِ الخَجولْ
*
وَبِلهْفَةِ العرّافَةِ السَكرى بِصَهباءِ الفُضولْ
قَرأتْ على جُلّاسِها
فِنْجانَه المقلوبَ رائِيَةً بِهِ
قَلَمَ المراثي خلفَ قافلةِ الفُلولْ
*
وَتَظلُّ تنبِشُ في رُؤى فنجانِه حَدّ الذهولْ
*
عن سِرِّ ألحانِ المُغنّي جامحاً
بِخيالِهِ المسكونِ بالفوضى وآلاف الخيولْ
*
عَبَثاً تُطيلينَ الوقوفَ أميرتي
مابينَ أطلالِ المُهاجِرِ والطُلولْ
*
قدْ قيلَ لي هَرِمتْ غصونُ السِدْرَةِ الأولى
وأدرَكَها الذُبولْ
*
فشرعْتُ أسقيها بدمعِ قصائدي
فَلَرُبّما أحمي خريفَ العُمرِ
من شَبَحِ الأفولْ
***
د. مصطفى علي