نصوص أدبية
يوسف أبو الفوز: الإخْتِيَار
ببطء قاتل يمر الوقت. حاولت ان الوذ بشيخ همنغواي. هاهو في عرض البحر يصارع سمكته الكبيرة. وانا هنا اصارع قلقي. تركت الشيخ جانبا. فنجان القهوة امامي لا يزال ساخنا كقلقي. الرشفة الاولى حرارتها شيئا عادي بالنسبة لما احسه. ادرت المذياع بصوت منخفض. مطربة من الصف الاول تزعق ترحب بالربيع. اي ربيع هذا والوحول والموت في الشوارع والاف الناس ترتجف من البرد والخوف:
ـ انها لن تثير فيك سوى احساسا بالقرف.
بالضبط، هذا ما قاله مرة (سهيل) عن اغان كهذه. لم احتمل فحيح المطربة، ولم احاول البحث عن محطة اخرى. اغلقت المذياع. طرق على باب الغرفة المجاورة. من اية جهة يمكن للربيع أن يأتي إذا كان ثمة أبواب مغلقة. ضحكة خليعة تتعالى من الغرفة المجاورة. صوت المفتاح يدور في القفل بسرعة. الى متى سنحتمل البقاء في هذا المكان الموبوء. عدت للشيخ مرة اخرى. ها هو سمك القرش اصبح خطرا يهدد سمكتك ايها الشيخ واصبح حاجزا امام تحقيق حلمك بان ترجع ظافرا بسمكة كهذه.. ولكن كيف للحلم أن يتحقق؟
ـ من اجل ان تحيا عليك ان لا تخون الحلم.
آه يا سهيل..سأحيا كما أريد وكما كنا نحلم وستظل كلماتك ترافقني دوما تنتظم مع دقات قلبي..
ـ طق.. طق.. طق!
أضطربت يداي.. تركت شيخ همنغواي يسقط على الوسادة. تحفز جسمي كله للطرقات الخفيفة على الباب. هاهو (وافي) اخيرا.. كالعادة.. ثلاث طرقات خفيفة بطرف السبابة. وفتحت الباب. كان ياسر عرفات يحدق بي بثقة ويحك ذقنه بأصابع كفه الايسر ويشماغه يبدو متربا، وهو يطل عليّ من على صدر الصفحة الاولى للصحيفة التي يحملها وافي، الذي فضح كل ما أريد بابتسامة عريضة. أحتضنته.. اخيرا سألقاها، ولوافي ابتسامة تذكرني دوما بعيني سهيل، فهما تومضان بالحقيقة.. ونظرة واحدة لهما كافية لاختصار كل الجمل وهذا ـ الملعون ـ وافي احيانا يتعمد أثارتي ويجعلني أسخن حتى العظم ليراقبني أغلي، لكنه الان وبأبتسامته المحببة عندي أعاد الي الكثير من هدوئي. ناولني مظروف فتحته. قصاصة ورق صغيرة. أنه خطها. وبسرعة تحركت. يجب ان أصل مبكرا. الموعد اليوم. ارتديت بنطالي الوحيد وانتزعت قميص وافي من على كتفيه ـ وسط إحتجاجه ومزاحه ـ فهو يبدو منسجما أكثر مع جاكت أخي الذي اعارني اياه. صففت شعري على عجل. كان وافي يدور حولي ويضحك من هيئي الجديدة. فعلا أني أبدو اكبر من سني بملابسي القاتمة وبنظارتي الطبية المزيفة والشارب الكث الجديد وشعري الذي تركته يطول قليلا. شد وافي على يدي،أوصاني بالحذر، تمنى لي التوفيق وهمس :
ـ أني فخور بك.
لم ادعه يسترسل في عواطفه، و.. استلمتني شوارع وساحات المدينة الكبيرة. وحتى يحين الموعد لا تزال امامي ساعة كاملة، فتركت الباص ينقلني في جولة صغيرة في المدينة. ووسط كل هذا الضجيج والازدحام والشعور بالغربة ما يثير شجونك، ان تكون الشوارع الرئيسية محظورة عليك، وتختار الازقة كي تحافظ على نفسك، فهذا ما يزيد احساسك بالغربة، وان تشعر بان الهواء الذي تتنفسه فاسد، فهذا مما يزيد من سخطك ويشعرك بان كرامتك مهددة وأنك..
ـ ان أثمن رأسمال لدى الانسان هو كرامته.
لا أزال اتذكر كلماتك هذه يا سهيل. لقد قلتها لي حين زرتني لمدينتي الصغيرة بعد اعلان خطبتكم انت و (نادية).. ولكن.. اين لي أن ألتقيك بعد الان؟ ها هي يا سهيل مدينتك، التي طالما دعوتي لزيارتها، أحل فيها ضيفا بدون دعوة. لست وحدي. وأنما معي الكثير.. والكثير من ابناء المدن الصغيرة الذين ما أن يطالع احدهم وجها مألوفا لديه حتى تدور عيناه بسرعة تبحثان عن اقرب زقاق لينقله بعيدا. هاهو الشارع المذكور بالقصاصة امامي، يموج بحركة الناس والسيارات. وذلك هو موقف الباص المعني مزدحما كالعادة. امراة وجهها مدهون كالدمية، كوجه المومس التي تدور كل جمعة بملابسها الفاضحة على غرف بيت العزاب، حيث نسكن، تعرض سلعتها. وجوه اخرى متعبة. عيون ذابلة. صبية بعينين ناعستين ومراهق يحوم حولها بملابسه الامريكية الصنع الفاقعة الالوان يبدو كواحد من مهرجي السيرك. عجوز متعبة تفترش الارض. رجل بوجه مجدور يدخن سيجارة اجنبية غزت الاسواق مؤخرا يغمز للمرأة الدمية وتبتسم. وهنا في هذا المكان يجب ان انتظر. دقائق وتصل. هي دقيقة في مواعيدها. في القصاصة التي جاءني به وافي ثمة خطان رفيعان تحت كلمة (بالضبط). الساحة في مواجهة الموقف تمور بالناس يسيرون في مختلف الاتجاهات. بماذا يا ترى يفكرون؟ ومن على عمود كهرباء قريب، وكأي جدار ولوحة اعلانات في هذه المدينة الكبيرة، كانت فلسطين تطل تراقب الناس. وحدقت جيدا بالملصق. وجه حليق.. ابتسامة حزينة.. بالتأكيد كان يدري ان صورته ستحتل يوما ما زاوية في جدار حيث يكتب في اعلى الملصق اسمه تسبقه كلمة الشهيد. ولكن يا للسماء.. لكم تبدو هاتان العينان كعيني سهيل؟! تومضان بالحلم. يا ترى إذا هو الشيء الذي يوحد ما بين الشهداء؟
ـ حين تكون قضيتك عادلة لا تبخل عليها بأي شيء.
نعم.. نعم يا سهيل وهل بخل هذا الشهيد بحياته على فلسطين؟ وانت يا سهيل؟ ألم..؟ قد يموت جسد الشهيد يا سهيل لكنه يبقى متواصلا مع هذه الحياة من خلال القضية، من خلال الذين أحبوه.. الذين يسيرون على نفس الدرب.. الذين يريدون العيش بكرامة.. الذين..
ـ مساء الخير.
عيناي في عينيها.. الساحة تمور بالناس.. وعلى سريري تركت شيخ همنغواي يصارع سمك القرش، ومن عيني الشهيد كانت فلسطين تراقبنا، وفي عينيها كان سهيل ينتصب عملاقا.
ـ لننتقل لمكان أكثر آمنا.
وسرنا متجاورين. كنت لا ازال قلقا. من أين سأبدا مع نادية. هذه الفاتنة التي تسير بجواري. زهرة فواحة بمستوى الحلم. وكما عرفتها قبل سنين. مشرقة الوجه دوما رغم خطوط الحزن الخفية. استشهد خطيبها تحت التعذيب بطلا. واغتصبها جلادوا خطيبها بعد ذلك بشهور. ولكنها تبقى شامخة كالقضية التي من اجلها تعيش. مع انسانة كهذه يجب أن اتجاوز كل العبارات التقليدية. ولكن من اين سأبدأ مع نادية؟ من اين سأبدأ مع كل هذه الثقة والاحساس بالقوة. وجاءني صوتها قوي النبرات صاف كطيبتها:
ـ إذا كان ما عرضته في رسالتك بدافع الشفقة. أو لردم ثغرة، فأنت تعرف أني اخترت هذا الطريق بوعي كامل. وانا على أتم الاستعداد لتحمل كل نتائج هذا الاختيار، وقادرة على مواجهة ادران هذا المجتمع و..!
ولم ادعها تكمل. في غرفتنا، في بيت العزاب الموبوء بالمومسات، حين أخبرني وافي انه عثر على صديق يمكنه من ايصال رسالة الى نادية، قضيت نهارا كاملا وانا ابحث عن مفردات اسطرها في رسالة قصيرة. كان وافي يدور حولي يضحك على المسودات الممزقة تحت السرير. والان لا أدري من اين لي كل هذه القدرة على الحديث. ها أني اشعر ان سهيل في كل خلايا جسمي. يحثني على التمسك بالحلم. يدلني على أبواب الفرح، اخبرتها بأن شيخ همنغواي لم ترهبه اسماك القرش.. فالإنسان لم يخلق للهزيمة.. وكان موج البحر في عينيها، ونوارس قلبي تصعد وتهبط. اخبرتها ان رسالتي حملت لها قرارا لن أندم عليه، وبأمكانها ان تفسره كما تشاء على شرط استثناء دافع الشفقة. كان سهيل يجد نفسه في عباراتي. وتحدثت لها عن الحلم، القضية، الشهداء، المستقبل والوطن. تحدثت كثيرا، ولم انتبه الى اننا قطعنا مسافة طويلة، واجتزنا ازقة عديدة. كنا في نهاية زقاق أسلمنا الى بداية شارع واسع تحف به اشجار عالية من جانبيه. وانعطفنا باتجاه عمق الشارع. كنا نسير متجاورين. خطواتنا بإيقاع واحد. كنت لا ازال مستمرا في الحديث وبنفس الاندفاع.. و.. احسست بأصابعها الدافئة تشبك اصابع يدي وتضغط عليهما. ها أني ارى سهيلا خلف كل شجرة يباركنا. الليلة سيرقص وافي فرحا. وأنى لكم ايها الجلادون ان تفهموا ان اول مولود ذكر سيأتي سأطلب من نادية ان نسميه سهيل. أنى لكم ايها الجلادون ان تفهموا ان للربيع أبوابا سرية يدخل منها الفرح ولا تستطيع سدها كل أبواب زنازينكم النتنة.
***
يوسف أبو الفوز
22/10/1979 ــ الكويت
قصة من تلك الأيام.. في عام 1979، في الكويت..
كتبت هذا النص، في دولة الكويت التي وصلتها مشيا عبر الصحراء، بعد اضطراري لترك وطني أثر القمع البعثي العفلقي الصدامي الوحشي لكل من رفض سياسة التبعيث الشوفينية الفاشية. نشر النص في نفس الفترة في مجلة العامل الكويتية ووقعته بإسم مستعار (شياع مساعد فهد) ـ لاحظ تركيبة الاسم ! ـ. لابد هنا من الاشارة بتقدير كبير الى موقف الصحافة الكويتية الديمقراطية، واحتضانها لاقلام العشرات من الكتاب العراقيين، اليساريين والديمقراطيين، الذين وصلوا الكويت تخلصا من عسف وارهاب نظام حزب البعث الذي كان يتشدق بديماغوجية مقرفة بلافتات القومية والحرية. تجدر الاشارة هنا خصوصا الى مجلتا (الطليعة الكويتية) الاسبوعية و(العامل) الكويتية الشهرية، اللتين فتحتا صفحاتها، امام جملة من الكتاب العراقيين، الذين وتحت اسماء مستعارة راحوا ينشرون كتاباتهم السياسية والادبية، التي صارت تغيض سفارة النظام الديكتاتوري كثيرا، مما عرض مجلتي الطليعة والعامل الى العديد من الضغوط والاستفزازات من قبل سفارة النظام الديكتاتوري في دولة الكويت.
* النص أعلاه من مجموعة اول كتاباتي القصصية، ستنشر قريبا ضمن مجموعة قصصية تشمل اغلب الكتابات التي نشرت في الدوريات الكويتية ، واغلب النصوص تستند الى تجارب حقيقية عاشها الكاتب ومن حوله من رفاقه واصدقائه ، سيلمس القاريء اللغة الحماسية ـ المباشرة ـ المعادية للديكتاتورية والعسف ، وايضا لفت انتباهي أن فلسطين حاضرة بقوة في النص والصورة!
* لابد من توجيه التحية لجندي مجهول حقيقي رفض الافصاح عن أسمه بذل جهدا مثابرا للحصول على نصوصي المنشورة في الصحافة الكويتية وارسلها كأجمل هدية.