نصوص أدبية
سنية عبد عون رشو: البحث عن نسرين
طرقت بابي شابة انيقة الملبس جميلة المحيا حنطية البشرة ممتلئة نوعما ينسدل شعرها الكستنائي فوق كتفيها وتغطي خصلة منه نصف وجهها المدور تميل قامتها للقصر أو ربما تعد بين بين... لا اعرفها وكأني لم أر ملامح وجهها من قبل فاجأتني بسؤالها... انت لميعة اليس كذلك... ؟ كما عهدتك لم تغيرك السنون... !!!
وعدتك ان أزورك وها أنا أبر بوعدي..
الجمت الدهشة لساني... ثم تمالكت نفسي وقلت بصوت مبحوح النبرات اهلا بك ولكني تمنيت في سري أن أتذكرها كي يتوضح الأمر لدي... ثم بادرتها قائلة أهلا وسهلا تفضلي... شعرت الشابة كوني شديدة الارتباك ابتسمت ثم أزاحت خصلة شعرها المتدلية فوق وجهها وبادرتني قائلة...
أنا صديقتك نسرين ووو... وقبل ان تكمل كلامها عانقتها بحرارة تذكرت صوتها وكذلك ابتسامتها التي كانت لا تفارق محياها وقهقهتها بصوتها الهادئ المحبب للنفس..
لميعة ونسرين كانتا معا في الجامعة قبل سنوات وبعد تخرجهما افترقتا وجرفتهما ظروف الحياة بقسوتها المعهودة خلال تلك السنين حيث حرب الثمان سنوات ما زالت مستمرة وما زالت تحصد أرواحا بريئة لا تملك فيها ناقة ولا جملا... لذلك تحول الانسان آنذاك الى ما يشبه الدمية المتحركة دون احساس جميل يشده للحياة ودون التفكير بالمستقبل فهو مرتهن بأحداث هذه الحرب المشؤومة...
نعم في خضم تلك الظروف نسيت لميعة صاحبتها وأقرب صديقة لقلبها... ... أو ربما بسبب سمنة ملحوظة طرأت عليها فغدت مختلفة عن عهدها السابق...
أما روح نسرين وطيبتها وضحكتها وثقافتها العالية وحبها لقراءة الأدب من الروايات والشعر والقصة باقية كما هي.. كانت نسرين تتمنى ان تكون أديبة وروائية أو مترجمة للروايات الأجنبية لأجادتها للغة الإنكليزية وكذلك ضبطها لقواعد اللغة العربية علما انها درست في كلية العلوم وهذا ما جعل لميعة تتمسك بصداقتها أما أفكارها اليسارية فكانت تعتبرها لميعة أفكارا حرة تخصها رغم ان لميعة كانت تنحاز لأفكارها احيانا لكنها كانت شديدة الحذر والخوف ويعود السبب الحقيقي وراء خوفها ان أخاها الأكبر قد أودعته السلطة في السجن منذ سنين دون ان تعرف عن اخباره شيئا... . وكانت تعتبره لميعة الأب الروحي لها لما يحمله من مبادئ وقيم قد آمن بها.. لذلك كانت لوعتها شديدة...
نسرين التي كانت تسكن معها بنفس الغرفة في القسم الداخلي لأربع سنوات خلت... ها هي اليوم تتجشم عناء السفر من محافظة بعيدة بصحبة احدى قريباتها لزيارة لميعة... وتستعيد معها ذكرياتهما الجميلة وطفولة أفكارهما وبراءتهما في تلك السنين...
وبعد ان خاضتا معركة الحياة ومارستا مهنة التدريس وتحملتا مسؤولية كبيرة فغدتا تنظران للماضي كأنه حلم جميل وانتهى... تسامرتا وضحكتا ثم ودعت نسرين صاحبتها على أمل ان تلتقيا في حفلة زواج نسرين عما قريب... . أعطتها رقم هاتفها الارضي... ثم ودعتها
ولكن لميعة لم تحضر ذلك العرس ولم تحاول ان تتصل بها أو حتى تعتذر منها... وكذلك لم تحاول ان تسأل عنها فيما بعد... لكنها لم تغب عن مخيلتها أبدا... وكانت أمها تزجرها بشدة حين تذكر أسم نسرين خلال أحاديثها في البيت مع أخواتها... فكانت تكرر على مسامعها ان (للحيطان اذان)... نعم الخوف ألجم الألسن وحتى مجرد التفكير بما يخالف ورغبات السلطة الحاكمة آنذاك...
كان أخو لميعة يحمل نفس أفكار نسرين وهذا مما جعلها تركن للصمت والابتعاد عن أخبار صديقتها توجسا من ملاحقة العيون..
وفي أحد الأيام كانت لميعة في زيارة لبيت أحد أقاربها في بغداد وكانت عندهم حفلة عرس وقد تجمع في بيتهم الكثير من الأقارب والأصدقاء... فكانت إحدى النساء تغني بصوتها العذب الذي تناسب مع رقتها وانوثتها الطاغية... أثنت على صوتها جميع النسوة فأخذت تتباهى وتفتخر باسم مدينتها التي يمتاز أكثر ساكنيها بعذوبة أصواتهم ويا للمصادفة الغير متوقعة... انها من مدينة نسرين... شعرت لميعة بقشعريرة تسري بأنحاء جسدها ولم تعد تسمع ما تقوله بأغنيتها..
انتظرتها حتى أكملت غنائها فنهضت وجلست بجانبها وبعد التعرف عليها بحجة الأعجاب بصوتها وذلك مما جعل المرأة تسترسل بالحديث المطول معها وتحدثها عن كثرة المعجبين والمعجبات بصوتها... انتهزت لميعة فرصة اندماج المرأة معها فسألتها عن نسرين ان كانت تعرفها أو لا... فتنهدت المرأة طويلا ثم قالت آه نسرين أعرفها تمام المعرفة نعم انها مدرّسة الكيمياء ولكن أرجوك لنترك الخوض بهذا الموضوع... وهنا احترمت لميعة رغبتها وأسبابها وانسحبت بهدوء تام...
وبعد سقوط الصنم ورغم تقادم الزمن عادت لميعة تبحث عن نسرين وعن أخبارها مجددا ولكن دون جدوى ولولا الوضع المرتبك في بعض المناطق وعدم استطاعة أي امرأة للسفر لوحدها لمحافظة بعيدة لكانت قد سافرت اليها لشدة شوقها لصديقتها ولسماع أخبارها...
بحثت عن عنوان بيتها الذي كانت تحتفظ به سابقا والذي وجدته مكتوبا على أول ورقة لرواية الأم (لمكسيم غوركي) التي أهدتها لها نسرين أيام الجامعة سرا عن باقي زميلاتها... خبأته في مكان آمن ثم قررت ان تزورها في الوقت المناسب... وحين تهدأ الامور
كان من عادة لميعة في المدرسة ان تقرأ ما وصل للمدرسة من صحف خلال درسها الشاغر... فوقعت بيدها مصادفة إحدى صحف البلد تصفحت بأوراقها وقلبتها... وهنا وقعت عيناها على خبر هز كيانها وأفقدها صوابها فأخذ جسدها يترنح فقد أصيبت بدوار شديد فحاولت ان تسند جسدها وتتمسك بأطراف الأريكة لكنها لهول الصدمة لم تتمالك ان تسيطر على نفسها فسقطت أرضا من فوق الأريكة ولولا تدارك زميلاتها للموقف لتعرضت لما لا تحمد عقباه...
فقد وجدت أسم نسرين الثلاثي وأسم مدينتها بقائمة الشهداء الذين تمت تصفيتهم من قبل النظام السابق... .
***
قصة قصيرة
سنية عبد عون رشو