نصوص أدبية
سامي البدري: الاصطدام بالأبواب الزائفة
كنت أقف على رصيف محطة (غار دو نورد) الباريسية، أنتظر القطار المعاكس لقطارها، عندما ربتت على كتفي وقالت (أريد منك أن تجعلني أموت، إن كنت تستطيع، فهيا اصعد معي القطار المعاكس لوجهتك).
حدث هذا قبل عامين، ورغم أني لم أكن أعرفها من قبل، بل كل ما كانت تعرفه عني وأعرفها من خلاله هو لقائنا على رصيف تلك المحطة، لنصف الساعة التي سبقت وصول قطارها وصعودها إليه في رحلته المعاكسة لرحلتي.
ما اسم تلك المرأة؟ أين تسكن؟ ماذا تعمل؟ هل لها عنوان ثابت في باريس أو في أي مدينة فرنسية أخرى؟ لا أعرف. كل ما أعرفه عنها، وأظن أنه هو الذي تعرفه هي عني، هو لقاء نصف الساعة العابر ذاك، على رصيف محطة (غار دو نورد)، والذي كانت قد بدأته بقولها ((هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها وجه رجل يرفع ياقة معطفه اتقاءً لبرودة الريح.. كل الذين سبقوك رأيت أقفيتهم فقط وهم يمضون بعيداً في الطرقات، ولكن ورغم ذلك كنت أعرف أنهم أوغاداً من صنف خاص. هل تعرف ماذا أعني بأوغاد من صنف خاص؟ أعني أنهم صنف الرجال الذي تنتظره النساء في أحلام يقظتهن ليسحقهن بكبريائه وصلابته، ونادراً ما تطاله إحداهن. إنه نوع الرجال الذي تحبه النساء لأنه قادر على منحهن الموت الكبير الذي يحلمن به، وها هو وجه أحدهم أخيراً، وجهك أنت، أمامي ليؤكد لي صحة ما نحلم به)).
لِمَ لم أركب قطار تلك المرأة وأذهب معها، رغم أنه لم يكن يشغلني شيء حقيقي في ذلك اليوم، لا في باريس ولا في بوردو التي كنت أعتزم الذهاب إليها؟ تركتها تركب قطار تبددها، بكل غباء، وتمضي بعيداً، وربما إلى لا مكان. وها أنا منذ رحيل قطارها أطارد وجهها، والطريقة التي تسدد بها نظراتها، ونبرة صوتها، التي قد تسمعها من كل امرأة وهي في حالة شوق، ولكن من دون أن تكون لصوتها أو صادرة عنها. كان لها وجه وطريقة تسديد نظرات ونبرة صوت، يمكن أن تصادفك في جميع الأماكن التي تمر بها، ولكن من دون ان تكون لها. لقد كانت امرأة كل ما فيها لها وحدها، وكأنها نيزك يداوم السقوط كي لا يشبه غيره بعد ملامسته للأرض.
طفت معظم شوارع وأحياء باريس والكثير من المدن بحثاً عنها، وما أكثر المرات والصدف التي تراءت لي بين وجوه النساء، في الكثير من ملامحها ومن طريقة حديثها، ومن الطريقة التي مشت فيها باتجاه عربة القطار والطريقة التي دخلتها بها، ولكن لم تكن أي من أولئك النساء أبداً. بل إني رأيت سروالها والجاكيت اللذين كانت ترتديهما يومها، رغم تفرد ألوانهما، ربما مئات المرات، وعلى عشرات الأجساد التي تماثل جسدها في مقاساته وتكوراته، ولكن من دون أن يكونا لها أو تكون هي فيهما.
يوماً حدثت عنها صديقي الفنان المتخصص في رسم وجوه المجرمين ومن يعتدون على الناس في الشوارع، عن طريق الأوصاف التي يتذكرها الضحايا، ورغم أن تلك الأوصاف لا تكون دقيقة، لأن الضحايا يكونون قد رأوها وهم في حالة عدم التركيز التي يسببها الخوف، إلا أنه دائماً كان يجيد رسم تلك الأوصاف ويخرجها بدقة إلى حد أن الضحايا سرعان ما يصرخون (نعم هذا هو بالضبط) حال رؤيتهم للوحاته، إلا أنه ورغم أني وصفتها له عدة مرات، ورغم أن توصيفي لصورتها لم يأت وأنا تحت الخوف، أي كان أكثر دقة بكثير من توصيف ضحايا الاعتداءات العابرة، إلا أن صديقي عجز عن رسم ملامحها واتمام صورة لها، وإلى حد أنه رمى القلم من يده ومزق عدة أوراق من دفتره وقال، وهو يرمقني بنظرة تشكيك (لا أظن أن في الحياة امرأة تحمل الملامح التي تتحدث عنها.. هذه الملامح عصية على التشكل وكأنها لم توجد يوماً.. بل كأنها ملامح امرأة ماتت قبل أن تولد).
ذات يوم وأنا أتقدم لدخول أحد بنايات المكتبة الوطنية الفرنسية (هي تتكون من أربع بنايات متشابهة ومتقابلة، تكوّن مربعاً بأربع زوايا حادة، وكل زاوية هي عبارة عن بناية مستقلة وبارتفاع ثمانين متراً وعلى شكل كتاب مفتوح) لمحتها تقف أمام أحد تلك البنايات، ولكني عندما اقتربت منها وجدت امرأة تشبهها كثيراً وترتدي ذات ملابسها، ولكنها لم تكن هي. وعندما توقفت في اللحظة الأخيرة عن محادثتها واستدرت راجعاً، وجدت امرأة تشبهها تهم بدخول بوابة البناية التالية، فأسرعت باتجاهها، ولكنها أيضاً كانت مجرد شبيهة لها ولم تكن هي. ومن غريب المصادفات أن هذا المشهد قد تكرر مع البنايتين الأخريين من بنايات المكتبة الوطنية، وإن النساء الأربع اللاتي اشتبهت بهن كن يشبهنها إلى حد المطابقة في الملامح وفي الملابس ومقاسات الجسد الخارجية، التي اختزنتها ذاكرتي لها، ولكن من دون أن تكون أي منهن هي. فلم تكن لأي منهن لا دقة رسم ملامحها ولا طريقة توجيه نظراتها ولا نبرة صوتها.
ولأن اثنتين من النساء الأربع اللاتي صادفني في ذلك اليوم، كن الأكثر ايحاءً بهيئتها، عمدت إلى الاقتراب منهن والجلوس بالقرب منهن، من أجل سماع أصواتهن ورؤية وقع نظراتهن، ولكن لم تكن لأي منهما لا نبرة صوتها ولا وقع نظراتها أو طريقة تسديدها. وربما لشدة يأسي، في تلك اللحظات، تنبهت المرأة الرابعة إلى أني كنت أراقبها بطريقة غير طبيعية، فتركت الكتاب الذي كانت تقرأ فيه واقتربت مني لتسألني:
-أنت تراقبني بطريقة تثير القلق فعلاً فماذا هناك؟ هل لك أن توضح لي؟ ولكي أطمئنها إلى أني لم تكن لي أي نوايا أو أبيت لها أي سوء، حكيت لها قصة لقائي بتلك المرأة، ثم حكيت مصادفة ذلك اليوم العجيبة فقالت باهتمام: هل تعني أني أشبهها تماماً؟ قلت وأنا أشير لها بالجلوس إلى جواري، كي لا يؤثر حديثنا على رواد قاعة القراءة التي كنا فيها:
- باستثناء وقع نظراتها ونبرة صوتها. وبعد لحظة تفكير سألتني:
- وكيف كان وقع نظراتها، وكيف كان يختلف عن وقع نظرات باقي النساء؟ هل كان يترك أثراً في الأشياء مثلاً؟
- كيف أصف لك وقع نظراتها؟ لنقل إنه كان ساماً، ولكن ليس بالمعنى السيء للمادة السمية..
- بأي معنى إذاً؟ تقصد بمعناه كترياق؟ هززت رأسي بطريقة مبهمة وقلت بنبرة يأس:
- ولا هذا أيضاً.. وبدل أن يظلم وجهها بسبب اجابتي اتقدت عيناها لهفة وسألت بلهجة متأثرة:
- إذن...؟ هززت رأسي بنفس الطريقة السابقة وقلت:
- لا أعرف. ربما الأمر يشبه حالة غياب يشبه الموت، فكل من مروا بهذه الحالة قالوا إنهم تنعموا بحالة سلام لا توصف وندموا على عودتهم لوعي الحياة.
أومأت برأسها متفهمة وأنا أقف على قدميّ من أجل أن أنصرف، وعندما بلغت البوابة الخارجية للبناية وجدتها تناديني لتقول:
-أنا آسفة على وقاحة سؤالي، ولكني لم أستطع مقاومة فضولي: لم تواصل البحث عن تلك المرأة؟ هل تأمل أن تمنحك شيئاً استثنائياً لا تملكه غيرها من النساء؟ قلت بغياب وأنا أتابع شبحاً جديداً لامرأة محطة القطار وهو يمر أمامي ويبتعد:
- أليس لكل امرأة شيء استثنائي تمنحه لرجل بعينه، حتى لو كان موتاً خاصاً يتوق هو إليه؟
أومأت برأسها موافقة وعلى وجهها علامة سؤال لم أستطع معرفة وجهتها، قبل أن أمضي مسرعاً لألحق بشبح المرأة الجديدة، وعندما بلغتها كانت تشبه امرأة محطة القطار، لكنها أيضاً لم تكنها، عندها توقفت وسرت باتجاه المنفذ الذي يقودني باتجاه نهر السين، وعندما مررت من أمام بوابة البناية التي كنت فيها، كانت تلك المرأة مازالت تقف حيث تركتها، وعلى وجهها ذات تعبير التساؤل المبهم.
***
سامي البدري