نصوص أدبية
محمد الدرقاوي: مقتولة بعشق
القسم (3) من: ذكريات من رماد
3 /5ــ صغيرة مقتولة بعشق
***
وجدها تنتظره في مكتبه؟!! القلق الذي يكسو وجهها بعبوس لم يُغيِّب جمالا لمحيا، ولا كتم عاطفة نداء من روحها، تحركت عيناها الى الباب عند دخوله، وقفت تحييه بعناق تعمدت أن تجعله باردا يخالف ما ألفه منها، على خدها طبع قبلة، ولاثارتها تعمد هبرعضة خفيفة آلمتها لكن أكتفت بتحريك حاجبيها عتابا.. دعاها للجلوس على أريكة، ثم جلس على أخرى أمامها..
أحس أن على لسانها أقوالا، وفي عيونها تينع بسمة متوترة تفضح الظل الذي يكسو وجهها.. تغابى.. فسألها:
أين ساقتك قدماك هذا المساء ايتها السائحة في وطنها ؟
اشاحت بوجهها الى جهة باب المكتب، ضغطت على فكيها ثم قالت:
الى صدري.. الى خيبتي.. !!!
قطب حاجبيه، واثرُ بسمة في عيونه، وكأنه قد استغرب كلماتها المتقطعة بفرنسية كانت تعاند أن تكون موحية ؛ قالت:
ـ سعد ممكن تسمعني بتأمل ؟.. هل لك وقت ؟
بسرعة رد:
ـ طبعا اسمعك، ألست حبوبتي الصغيرة، خطيبتي ؟.. فلمن يكون وقتي اذا لم يكن لك ؟
قالها وهو يضحك وعلى كتفها يضع يمناه تاركا ابهامه يتحرش بجيدها..
أمالت برأسها قليلا ثم قالت:
ــ لا.. لحد الساعة.. لا.. ولا أظن أن كل اوقاتك لي.. لا تبالغ سعد.. فما كنت أعرفك ممن يكذب او يبالغ في قول !!..
حرك حاجبيه الى أعلى كنوع من الضيق تلبسه من قلقها وطريقة تعبيرها قبل
ان يحرك شعيرات الى الخلف نزلت على وجهها ثم يقول:
مابك سلمى ؟ صارحيني..
قالت وهي تحاول ألا تغالبها دمعة:
ـ سعد.. هل تؤمن بحبي لك ؟
حرك رأسه تأكيدا لقولها فتابعت:
ـ أحبك فوق ماتتصورسعد، وحبك لم ينزل علي كضربة حظ او هبة من احد.. حبك نما معي، احتضنته في صدري مذ كنت طفلة لاتعرف غير حب ابويها واختها.. عشت طفولتي وانت قدوتي ومثالي، وفي مراهقتي بعد ان توفيت أختي حصرت فيك كل أحلامي.. كأني ما كنت أحيا الا لك، أو كأن ضحى ما كانت غير عبور ريثما ابلغ رشدي مع اعتذاري للتعبير.. كنتَ أرق ليلي وخيالات ِعقلي، وتمنيات صدري..
كنت لا اعرف من الحياة الا شيئين: حبك في صمت وانت لا تدري، أوربما كنت تدري وتتجاهل، متمسكة بإلهام من حلم بشرى من ربي، وبدراستي لانها قطار أملي.. لاني التقطت من ضحى يوما أنك لا تتصور بيتا أنثاه غير متعلمة أولا تمارس في بيتها اختصاصاتها بوعي وحرية..
توقفتْ قليلا، أخذتْ نفسا عميقا.. كان يتابعها وكأنه يسمعها لأول مرة، فالتي أمامه ماعادت سلمى الصغيرة، ولا هي الطفلة التي ترعرعت أمامه، صمتها أطول من كلماتها، لا تهتم الا بدراستها، حتى وهي تساعد أختها في أمر منزلي لا تهتم الا باسترجاع ما حفظت من دروس أو دندنة لبعض الأغاني القديمة لمغنية فرنسية (ماري جوزي نيفيل)..
أبواي أحبهم
مدينة لنزهتي
فقراء اساعدهم
أيادي أعمل بهم
طيور لحلمي
حبيب لقلبي
وقيتارة للغناء
هذا ما تلقيته من ربي الكريم
لما ولدت
لاحظت ان كلماتها قد وجدت صدى في عمقه وأنه يتابعها بأمعان..
قالت:
ـ بعد موت ضحى صرتَ لي هوسا غايتي أن أحظى بك، لا كاستئثارأواستحواذ، أو لطمع بغيض، ابدا فهذا بعيد عن تنشئتي وفكري، وإنما كشريك واع يؤمن بالمرأة كتميز وشركة فكر ووجدان...
حركته عبارتها، فتذكر أنها زارته ثلاث مرات وهو في رحلة علاج بفرنسا اثر نكبة عمره في فقدان زوجته أختها، ثم كانت لاتفارق غرفة نومه بعد عودته.. كان الكل يأتي ويروح الا هي.. أحس بضيق في صدره وهي تحاول اثارة ذكريات يجاهد النفس الا يذكرها أو يسمح لها أن تلوح له باثر..
تملك هدوء ه وركز فيها النظر وهي تتابع كلامها..
ـ لا أقول لك اني صددت الكثير، فانا لم اكلف نفسي ذلك لان سلوكاتي كانت تحذر كل من يحاول تجاوزحدود الصداقة وتبادل المعرفة حتى قالوا عني" أنثى لا تعرف الحب" بل من القوالين من أتهمني بما لم يثرني ابدا بحس ولا انتباه..
حين كلمتني ماما الحاجة ـ والدتك ـ عن مشروعها الذي يتعلق بفكرة زواجنا، لم اتركها تشرح الدوافع والأسباب فقد وجدتني فاكهة ناضجة، عانقتها وقلت:
ـ سعد عشقي ولن أكون له الا إلفا واستمرار حياة بوفاء، ولعايدة أما كما هي تتمنى وتريد، الا اذا رفضني سعد لسبب ما.. أني مازلت بين عيونه طفلة، او لارتباطات أخرى..
أضفت وانا أهوي على يديها تقبيلا:انا من يتوسلك ان تساعديني على أن أعيد الفرحة لبيت عشت فيه، تشربت عاداته واقدر أهله..
بكت الحاجة وقالت:
ـ وهل يجد سعد أحسن منك جمالا ونسبا واصلا ؟
أنا فقط كنت أريد رايك.. أما موافقة الأهل فأنا كفيلة بها..
مرة أخرى يسرقه ماضيه منها بذكرى.. كيف لم يفكر فيها من قبل.. كيف كان يرى صورة ضحى في بعض بنات المنتديات فيميل اليهن ولا يرى سلمى وهي اقرب اليه منهن؟.. ربما ظلت صغيرة في عيونه.. ربما صمتها الدائم في صغرها ثم غيابها خارج الوطن للدراسة أبعده عن التفكير فيها.. صور كثيرة داهمته..
تذكر بنت عمه وهي تقايضه عن ابنته قبل كتب الكتاب.. ضغط على فكيه اشمئزازا وهو يتذكر عبارتها:
ـ "سعد.تعرف أني أحبك واني سأكون لعايدة أما، فبمَ يجود كرمك فوق مهري" ؟ كانت تريد شقة باسمها.. في عمارة كان قد بناها والده قبل موته؛بدا يقارن بين قولين وسلمى تردد:
خمس سنوات وجميعنا: الحاجة، وعايدة، والداي، ينتظرون تخرجي لنعلن خطبتنا او زواجنا مباشرة..
ركبته بسمة تغافل: "وحدي من كان آخر من يعلم"
حرك راسه سخرية من نفسه ثم تابع حديثها:
ـ عدت الى المغرب وقد كلل الله سهري ومثابرتي بشهادة قليلات من بلغنها من بنات وطني.. كنت أتمنى وجودك في انتظاري.. لكن كنت حينها مسافرا في مهمة تجارية.. لم انتظر قدومك الى بيتنا لتبارك لي فانا من هرولت اليك بعد عودتك من السفر، و أنا من توسلت الحاجة لتنظيم سهرة تجمعنا جميعا ؛ كانت الحاجة حريصة ان أبيت عندكم لتفسح لنا وقتا مريحا للحديث والحوار..، هي طبيعتها كما أعرفها من صباي..
مطارق الذكرى تدق أم رأسه.. هي ذي سلمى الصغيرة تتكلم برزانة الكبار، وتكابد لتفتح لمستقبلها طريقا مضمونة.. هي ذي سلمى أنثى عاشقة، واعية، حريصة أن تعيد لنهره الجريان بثقة وثبات وعزم..
وتذكر أخرى من خارج وطنه ادعت حبه واليها شد الرحال فوجدها ضرة ثالثة لكبير قوم تحلبه بالليل وتخونه بالنهار، وأخرى غيرها كانت لها وحمة كقطعة كبد سوداء تشوه صفحة خدها ما أن عالجها على حسابه وتبدى وجهها بصفاء وضاء حتى فضلت ابن عمها عليه.. شتان بين تربية وتربية، بين تنشئة تهدم كهوف الشك في النفس وأخرى تترقب المدح لترضى على نفسها حتى اذا لم تجد غير الضغط والرقابة والشك والتبخيس انقلبت الى افعى لا تبحث الا عمن تلذغه..
تململت سلمى في جلستها فاعادته اليها.. قائلة:
في تلك الليلة ما حبست عنك نفسي، فقد كنت مستعدة ان اهبك كل ماتريد.. وقد خامرني شك وانت تحاول ان تصدني مكتفيا بقبلات ولمسات كم ألهبتني !!..
كأنثى ماعرفت من الجنس الا ماقرأته في الكتب والمجلات.. لكن ما أحسسته كان كطوفان.. كم عذبني قبل ان أتركك وأتعذب توسلا لاغماضة نوم، ففرحتي لا يختصرها فظ بكارة قبل الأوان، فقد كنت أعي أنك لست ممن يقيس عفاف المرأة بغلالة ورد أومن يسعى لإثبات رجولته بقطرة دم.. كانت فرحتي ان أحقق حلمي واسعد ك، ان أعيد لك فرحات كنت الاحظها من صغري في عيونك وفي سلوكك وطريقة تعاملك مع المرحومة أختي، هي نفس الفرحة التي كانت ترين على البيت بين أمك وابيك، فبيت يسكنه الحب وبه يسير لا يتغافل عنه الا غبي بليد.. كم كنت أغبط أختي وأنا أجدك صباحا تعد الفطور أو تهيء بعد الزوال أكلات كانت تحبها ضحى وتفضلها من يديك..
الأنثى اللبيبة هي من تلتقط الصورة من زاوية دقيقة بإحساس غيرخادع ولا مريب.. هوذا ذكاؤها الذي تتحدى به الرجل ولم يفهمه بعد.
هي ذي سلمى الصريحة غصن من نفس الدوحة، لا حدود لصراحتها ولو سمت الأشياء بمسمياتها، لاتلف ولا تدور بل تتقصد ماتريد كما كانت ضحى اختها، تقول:
"الصراحة ليست صوتا داخليا، انها وحي من خالق على لسان خلقه"..
شهقت كأنها تستعيد أنفاسا في صدرها قد توقفت، وخنقتها دموع جاهدت النفس ألا تشي بها، وبغليان جوفها.. استكانت قليلا ثم قالت:
سعد.. اليوم انطعنت وانا أرى أخرى مجنونة بك او هكذا كتبت على السكايبي انت من تركته مفتوحا، فظهرت رسالتها على واجهة حاسوب البيت، تقول:
"كما تريد حبيبي ".. فلن يخونني حدسي فيك ؟ !!..
ـ صارحني سعد.. هل لك أخرى في حياتك انت معها في ارتباط وثيق ؟
بينهما ران صمت عسير، وفي راسه دارت الف صور ة وصورة..
صب نظره مكسورا قلب عيونها الحالمة وقال:
ـ سلمى.. هي أنثى موجودة.. ولكنها بعيدة.. تفصلني عنها آلاف الاميال.. لم نلتق قط.. ولا اعرف لها وجها، قهرها الزمان في زوجها وقد شلته رصاصة حرب ظالمة وصار أبناؤها الثلاثة عرضة للتشرد..
فاجاته: اسمها تغريد أليس كذلك ؟
اندهل.. وقد اهتز منه الصدر: كيف عرفت اسمها ؟هل نبشت في تسجيلات حاسوبه ؟ هي اقدر على ذلك بحكم تخصصها، ولكنه يستبعد تجسسها عليه..
فليس هذا من أخلاقها..
قالت بعد تنهيدة عميقة:يوم ضممتني الى صدرك وانا قربك على سريرك قلت لك:
ـ استعجل يوما ياسعد أجد فيه حبك نارا تلهبني !!.. ألا ترى أني أهبك كل ما تريد بلا تفكير ولاخوف من غد ؟ سعد !.. لوما كنت أعرف عن معايشة وخبرة عميقة مبادئ وعمق من أهديته حبي، أصله وفصله، ثقافته وايمانه بقيمة المراة صدقها وصراحتها يعشقها حتى النخاع ما رميت عليك نفسي،.. فهل حقا تحبني سعد؟..
فكان ردك وكأنك لم تكن تصغي لما أقول أوعليك أختلطت الأصوات والأحداث:
وكيف لا أحبك تغريد وانت في صدري. خفقان لظروفك.
لم ارد ان اعلق لاني كنت لا اريد أن افسد لحظة عناق بل كنت أطمع في أكثر وثقتي بك لا حد لها، فتركت الامر للزمن فانا معك قادرة على أن احميك ممن عداي، لكن اليوم بعد أن قرات عبارتها اليك كان لزاما ان اصارحك حتى نحدد لنا طريقا..
امامه صارت تترى الصو ر، الحاجة والدته، عايدة ابنته، تضحية سلمى وصبرها، ثقة اسرتها، الماضي الذي عاشه، تجاربه السابقة، مستقبل ابنته،. تغريد وحاجتها الى تعليم أبنائها بوعد قطعه على نفسه..
بسرعة فكر:يلزمه ان يكون ذكيا.. وأن يراعي الأولويات في حياته، مسك يدها وقال:
تعالي !!..
قامت وتحولت اليه.. أجلسها على ركبتيه.. قبل خدها وقال:
يا صغيرتي التي صارت أنثى يقتلها العشق.. أين انت اللحظة ؟
قالت:مع سعد.. أجلس على ركبتيه..
اعجبه تعبيرها.. ذكية، تتقصد غايتها بلا لف ولا دوران.. قال:
ـ ومن الأقرب؟ أنثى قهرها الزمان تعيش بين طلقات المدافع وانهيارالمنازل، وتشريد الأهل، تترقب من سعد عطية شهرية لتعليم أبنائها، ام من تجلس على ركبتي سعد.. تتشممه.. تقبله.. ثم تعاتبه وهي لا تدري حقيقة ما وراء المسافات؟..
كان يدرك ان الحقيقة وحدها تخفف عليها من وطء الصدمة التي تغلي في صدرها صعودا ونزولا.. أحس أنها اندهشت لما سمعت فذكاؤها طار بها الى حيث ماعادت جدوى للكلمات، ورأى ان دموعها قد غالبتها وفاضت على وجنتيها.. دفنت راسها في عنقه وصارت كطفلة صغيرة تشهق من غبن، سلمى بكل صبرها وقوتها تغالبها دموعها !!..
مسك يدها.. قبلها.. ووضعهاعلى خده..
رفعت راسها الى وجهه وقالت:
سعد أحبك حبيبي.. سامحني.. ما تصورت الامر كما أنت شرحته..
ناولها ورقا نشافا.. مسحت وجهها.. قامت من على ركبتيه واستدارت نحو مرآة في مكتبه تصلح من زينتها..
ولعبت الذكريات بخياله..
كان لا يحتاج كبير عناء مع أختها ضحى لتوضيح ما يريد.. بل لم يحدث ان شرح كل مايريد.. فقد كانت تملك من الذكاء وسرعة النباهة والفهم ما تكفيه إشارة أو بضع كلمات لتوضيح كل مايريد..
كذلك بدت سلمى اليوم أمامه، تقرأ الكلمات بصورها ومعانيها، وتستنتج الحلول بلا حاجة للسياقات تترى، او تكلف محدثها ان يطنب في توضيح..
لم تغضب ولم تحتج وتجادل، بل ولم تركبها الغيرة لتقول كاي أنثى عربية:
"أنا أوهي" ففكر حبيببها بعيد على أن تثيره شرقية
تنهد بعمق وقال: لك الحمد يا ربنا والثناء، فقد كافأت صبري كرما ورضى..
***
محمد الدرقاوي ـ المغرب