نصوص أدبية
فتحي مهذب: المشرحة
السماء كثيفة السحب مع زخات من المطر المتقطع. الهدوء المطلق يخيم على المستشفى الذي يبدو كما لو أنه مقبرة مهجورة. عدد من طيور الكراكي تعبر السماء بشكل هندسي محكم.
تطرق الباب الكبير إمرأة مسنة مشيرة إلى الحارس بأصابعها المتجمدة التي تبدو مثل أصابع هيكل عظمي .
تعقد صفقة سرية مع الحارس بأن يحملها إلى المشرحة مزودة بكيس من الدقيق قصد تحريكه بأصابع أحد المتوفين الجدد.
- قالت العجوز: هذا لا يستدعي الكثير من الوقت.
مقابل نصيب من المال لا يستهان به.
قال الحارس مضطربا: المهم أن نتفق على المبلغ.
قالت: بالتأكيد.
قال الحارس: إنتظري قليلا ريثما أجلب مفتاح المشرحة.
وعلى بعد أمتار قليلة يقف صديقه الحارس الضارب في الطول مثل صنوبرة في حديقة عمومية.
أحاطه بكل التفاصيل.
غير أن صديقه أعلمه بأن المشرحة اليوم خالية من الأموات.
قال الحارس الذي خفق قلبه بمجرد سماعه لإبرام الصفقة المالية.
- عندي خطة يعجز عن نسج خيوطها الملعونة كبير الشياطين.
قال صاحبه بتوتر شديد: وما هي؟
- إذهب إلى المشرحة حالا وتمدد
كما لو أنك فارقت الحياة منذ قليل.
- تأمر صديقي الداهية.
تسلل مثل البرق إلى المشرحة .
فتح أحد الصناديق الفارغة وارتمى داخله كما لو أنه جثة هامدة وظل الصندوق مفتوح الغطاء بينما يعج المكان بروائح الجثث المتعطنة.
المشرحة تتوسط ربوة مسيجة بأشجار كثيفة حيث الظلمة لا تفارق المكان المسكون بالأشباح .
إصطحب الحارس تلك العجوز الشريرة بعد تمام الصفقة وحصوله على الكنز.
فتح باب المشرحة. دخلت العجوز حاملة كيسا ممتلئا بالدقيق.
ظل ينتظرها أمام الباب.
نظرت العجوز يمنة ويسرة مستعينة بعكاز المخيلة على إنجاز المهمة الصعبة.
الحارس ممدد عيناه مرشوقتان إلى الأعلى أصفر الوجه لا حراك به
كأنه ميت يسبح في عالم الماورائيات.
وعلى غرة أخرجت العجوز كيس الدقيق لتحريكه بواسطة أصابع الميت حسب معتقدها الأسطوري يكتسب الدقيق قوة خارقة لتدجين الأزواج ذكورا وإناثا وامتثالهم المطلق لكل الإملاءات الزوجية وعدم الإعتراض على أي شيء.
ما إن أمسكت العجوز أصابع الحارس المتقمص دور الجثة وفركته بقوة حتى أطلق صرخة مدوية تكاد تشق فضاء المشرحة.
فجأة تهالكت العجوز على وجهها مفارقة الحياة. حينئذ قفز الحارس من صندوق الأموات مثل أرنب بري مناديا زميله الرابض أمام الباب محيطا إياه بموت العجوز الفجئي.
***
فتحي مهذب