شهادات ومذكرات
عبد الحسين الطائي: الجواهري قيثارة الشعر العربي ومفخرة العراق

من الصدف النادرة التي أضفت رمزية على تموز بأن تكون ولادة ووفاة الشاعر محمد مهدي الجواهري في هذا الشهر، وُلد في مدينة النجف الأشرف في السادس والعشرين من تموز عام 1899، وتوفي في دمشق في السابع والعشرين من تموز عام 1997، ليغلق حياته بعد نحو قرن من الإبداع والنضال الشعري.
يُعد الجواهري من أبرز رموز الشعر العربي المعاصر، وأحد أعمدة الأدب في العراق والعالم العربي، لُقب بـ "شاعر العرب الأكبر"، وهي مكانة كبيرة جاءت نتيجة تراكم إبداعي هائل، وموهبة فذة، ورؤية فكرية وإنسانية متقدمة. امتلك ناصية اللغة العربية وتمكن من أدوات الشعر الكلاسيكي حتى صار شعره امتداداً طبيعياً لتراث كبار الشعراء من أمثال المتنبي والمعري وأبي تمام وغيرهم من فحول الشعراء، لكنه امتاز عنهم بأنه طبع هذا التراث بطابع العصر، وجعله منبراً لقضايا الإنسان والوطن.
يرى الأديب حسين مروة، أن الجواهري ينتزع مكانه انتزاعاً خارج سربه في تلك السلسلة المخضرمة، لنراه في مكان الطليعة بين كبار أدبائنا المعاصرين ويرتفع شعره من حيث القيمة الفنية الجمالية إلى مستوى الوعي الناضج الذي يدرك هدفه بدقة.
اتخذ الجواهري مواقف وطنية جريئة ومعارضة للحكم الملكي في العراق، كان صريحاً في نقده اللاذع للفساد السياسي والاجتماعي والاستبداد الذي شاع في عهد النظام الملكي. هاجم الطبقة الحاكمة التي كانت تنهب خيرات العراق بينما يعاني الشعب من الفقر والظلم، وقد عبّر عن تلك المواقف الجريئة بوضوح في شعره، عكس مشاعر الحزن والأسى لدى الناس لما آل إليه حال العراق في ظل الحكم الملكي قائلاً:
يا دجلة الخير! يا أم البساتينِ ما لي أراكِ كأنكِ لا تسرّينِ
رغم المكانة الرفيعة التي حظي بها الجواهري خلال حقبة العهد الملكي لكنه انحاز إلى صفوف العمال والفلاحين والكادحين، منتقداً هيمنة الاقطاع وأصحاب النفوذ على مقدّرات البلاد، رافضاً التبعية للاستعمار البريطاني. له مواقف مشرفة من قضايا الشعب الوطنية، على سبيل المثال وثبة كانون 1948، التي سقط خلالها شهداء، منهم شقيقه جعفر، الذي رثاه بقصيدته الشهيرة التي أصبحت رمزاً للمقاومة الشعبية:
أتعلمُ أم أنتَ لا تعلمُ بأنّ جراحَ الضحايا فمُ
وبسبب مواقفه المتشنجة تعرض للمضايقات، وأُجبر على ترك العراق مرات عديدة، لا سيما في عهد نوري السعيد، بعد أن خضع شعره للرقابة، لكنه لم يتراجع عن التعبير عن قناعاته، واستمر في مساعيه الوطنية في بث وتشكيل الوعي السياسي والثقافي لدى الجماهير في مواجهة الاستبداد الملكي بحيث أصبحت قصائده تُلقى في المظاهرات والمناسبات الوطنية.
وفي الخمسينات من القرن الماضي مرَّ العراق بظروف صعبة وخطرة على سياسة البلد ومستقبله، فقد أسكت نوري السعيد السياسيين والكُتاب والمواطنين بإجراءات تعسفية لم يسبق لها مثيل، وتحول العراق إلى سجن كبير، واشتد الظلم، وانتشر الفقر، فركز الجواهري على أحوال العراق الاقتصادية، والحالة المزرية التي يعيشها الفقراء، داعياً باسلوبه الساخر الجموع الجائعة والمضطهدة الإقلاع عن حالة الاسترخاء التي تغريهم بها الفئات الحاكمة:
نـامي جـيــاعَ الـشَّــعـبِ نـامي حـرسَـــتْـكِ آلـِـهــــةُ الـطَّـعـامِ
نـامي فــانْ لـــم تـشـبَــعـي مِـن يَـقْـظَــةٍ فــمِـنَ الـمـنـام
نـامي عـلى زُبـــــد الوعـود يُــدافُ في عَســــلِ الـكـلام
كانت قصائده منصة للنضال السياسي والاجتماعي، واجه بها الاستعمار، وندد بالظلم، ودافع عن الحرية والعدالة. عاش معظم حياته في خضم تحولات العراق الكبرى، في العهدين الملكي والجمهوري، فكان شاهداً وفاعلاً في أحداثها، من خلال قوة وتأثير الكلمة الشعرية التي زلزلت المنابر وحركت مشاعر الناس في ميادين النضال.
وبعد ثورة 14 تموز 1958، شهد العراق حراكاً فكرياً وسياسياً واسعاً، وكانت النخبة المثقفة، لا سيما الأدباء، تطمح لتأسيس كيان يمثل صوتهم ويدافع عن حقوقهم المهنية والثقافية. فبرزت الحاجة لتأسيس كيان أدبي يمثل تطلعات الأدباء، ويعيد الاعتبار لدور المثقف في بناء الدولة الجديدة، هنا برز دور الجواهري، أحد أبرز الوجوه الثقافية والشعرية التي امتلكت ليس فقط الحضور الأدبي، بل أيضاً النفوذ الرمزي والشخصية القيادية القادرة على توحيد الصف، فبادر إلى الدعوة لعقد مؤتمر موسع للأدباء في بغداد ليكون أداة للنضال الثقافي المساهم في تنوير المجتمع.
ترأس الجواهري المؤتمر التأسيسي الأول لاتحاد الأدباء العراقيين، الذي ضم أدباء من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية، وتمخض عنه تأسيس الاتحاد عام 1959، كأول منظمة ثقافية أدبية عراقية تجمع الشعراء والروائيين والنقاد تحت مظلة واحدة. أصبح الجواهري أول رئيس لاتحاد الأدباء العراقيين، هذه المكانة شغلها بكفاءة وشجاعة، مستنداً إلى رمزيته وشعبيته، ووقوفه إلى جانب قضايا الأدباء في الحقوق وحرية التعبير ضد القمع السياسي والدفاع عن الكلمة الحرة وتفعيل النشاطات الأدبية والثقافية وتمثيل العراق في المحافل الأدبية العربية والدولية.
كان الجواهري من أبرز المؤيدين للثورة، وقد رحّب بها بحرارة، لأنها مثّلت، من وجهة نظره، خلاصاً من الاستبداد الملكي والطبقي، وفتحت آفاقاً جديدة لحكم وطني يتطلع إلى العدالة الاجتماعية. وكان موقفه من الزعيم عبد الكريم قاسم يتراوح بين التأييد الحذر في البداية، ثم التوتر والاختلاف لاحقاً. كتب في تلك الفترة قصائد تمجّد الثورة، وألقى في مناسباتها قصائد ملحمية أمام الجماهير المحتشدة، وكان يُنظر إليه حينها كأحد أبرز الأصوات التي أعطت للثورة شرعية أدبية وشعبية.
كانت علاقته مع الزعيم عبد الكريم ودية ومحترمة، وقد كرّمه بمنصب رسمي بتولي رئاسة اتحاد الأدباء العراقيين، وأسّس جريدة "الرأي العام"، التي كانت تعبّر عن أفكاره الحرة. ورغم هذا التقارب، بدأ الجواهري يعبّر عن تحفّظه وانتقاداته للسياسة العامة في العراق، لا سيما بما يتعلق بالتضييق على الحريات، وتراجع بعض مكتسبات الثورة، وازدياد النزعة الفردية في الحكم.
ونتيجة لتصاعدة نبرة انتقاداته، وتوتر علاقته مع السلطة، غادر العراق عام 1961 إلى براغ، حيث عاش سنوات طويلة في المنفى. لم يكن الجواهري من خصوم عبد الكريم قاسم الأيديولوجيين، لكنه عبّر عن خيبة أمل كبيرة من الصراعات السياسية، وتراجع الحريات، ما جعله يعارض السلطة من موقع المثقف الوطني، لا من موقع الخصومة السياسية.
هناك تساؤل مشروع يدور في أذهان الكثير من الناس، هل الجواهري شاعر مناسبات؟ تطالعنا الحقائق التاريخية بأن أكثر الوقائع تشير بأنه كان يبحث عن المناسبة ليقول ما في مخيلته، ولذلك كان شعره يأتي متفجراً، وكأنه قد تهيأ لها منذ زمن طويل، فالمناسبة منطلق ليس أكثر، وقد ينسى المرثي أو الممدوح أو المكرم، وقد يقول فيهم ما لا يرغبون فيه، وقد يصل الأمر إلى حدّ التعارض، وفي كل الحالات يبقى الامر واحداً لدى الشاعر، لقد قال ما يريد، وليأت بعد ذلك الطوفان.
يرى الأديب زهير الجزائري بأن هناك سؤالاً يفرض نفسه، مَنْ هو الجواهري في مواجهة السلطة؟ أهو الذي كتب أكثر من (48) قصيدة في مديح الحكام، تسع منها في مدح الملك فيصل الأول، أم هو الذي وقف وسط جمهور الوثبة ليحرضهم على تقحم رصاص الحاكمين لـ (يغري الوليد بشتمهم والحاجبا)، وهو الذي عاش أكثر من نصف عمره الإبداعي في المنفى بسبب موقفه من الحكام ملكياً كان أم جمهورياً ؟ إن الأمر أكثر تعقيداً من وضع الجواهري في واحدة من الخانتين: مداح الحاكمين أم محرض عليهم؟.
تفرد وتميز الجواهري عن غيره من الشعراء بعدة خصائص جعلته علماً بارزاً، حافظ على البنية العمودية التقليدية للشعر العربي، لكنه ضخ فيها دماء جديدة من حيث الموسيقى والإيقاع، امتاز شعره بقوة الاسلوب وجزالة الألفاظ، وُصف بأنه "آخر فرسان القافية العربية".
امتاز شعره بصدق التجربة، كانت قصائده انعكاساً مباشراً لما يعيشه ويشعر به من الغربة والمنفى إلى الحنين للأرض. كتب أكثر من سبعين عاماً، ونُشر له عدداً من الدواوين والمقالات، حتى جمع شعره في ديوان ضخم من عدة مجلدات، وكان حتى سنواته الأخيرة قادراً على نظم الشعر بقوة وبلاغة لافتة.
يبقى الجواهري شاهداً حياً على قدرة الشعر العربي على التعبير عن أشد اللحظات تعقيداً في التاريخ، وعلى تماهي الكلمة مع الموقف، وقد أطلقت مؤسسات ثقافية عراقية وعربية اسمه على مراكز أدبية وجوائز شعرية، تخليداً لإرثه الكبير. وفي كل تموز تمرّ ذكراه حاملةً عبق الكلمات التي صاغها، والقصائد التي أنشدها في المحافل الكبرى، ليبقى صوته خالداً في ذاكرة الثقافية العراقية والعربية، وشخصية تفخر بها الأجيال.
***
د. عبد الحسين الطائي
أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا