شهادات ومذكرات

علي حسين: ماركيز ويوسا.. اللكمة التي انهت الصداقة

لا تزال اللكمة التي وجهها الروائي ماريو فارغاس يوسا، إلى غابريل غارسيا ماركيز، تثير الكثير من التساؤلات عن الاسباب التي ادت الى أن يقوم يوسا بتسديد لكمة الى اعز اصدقائه، وقد ادى الأمر إلى قطيعة استمرت حتى رحيل ماركيز.

عندما توفي غابريل غارسيا ماركيز عام 2014 اجرت محطة البي بي سي حوار مع  يوسا، وعندما سألته عن طبيعة الخلاف قال: "هناك اتفاق بيني وبين غارسيا ماركيز.. دعونا نترك الأمر لسيرتنا الذاتية، إذا كنا نستحق ذلك، للتحقيق في هذه القضية.". لكنّ مرثيدس زوجة ماركيز قالت حينها أن: " ماريو غيور أحمق". العام 2008 سينشر يوسا مسرحية يفكر فيها البطل في تسديد لكمة الى أعز اصدقائه.

عندما انتشر خبر وفاة غارسيا ماركيز، كان ماريو فارغاس يوسا من أوائل الذين لجأت إليهم وسائل الإعلام. وتحدث عن صديقه القديم بكلمات قليلة: "رحل كاتب عظيم، منحت أعماله الأدب في لغتنا شهرةً ومكانةً مرموقة. ستخلد رواياته ذكراه وستظل تجذب القراء في كل مكان ".

وفي الاحتفال بالذكرى الخمسين لنشر رواية " مئة عام من العزلة " كسر فارغاس يوسا صمته الطويل وتحدث عن علاقته بماركيز، حيث وصفه " بأنه خجول وغير اجتماعي في الأماكن العامة لكنه مضحك للغاية ومسلي في الخاص. حزنتُ على وفاة غارسيا ماركيز. واكتشافي أنني آخر فرد في جيله أمرٌ محزن". وعندما سئل: :" أظنّ أن ما يمكن قوله بخصوص «مئة عام من العزلة» هو أنها ستبقى، قد تمرّ عليها فترات طويلة يغشاها النسيان، لكن في أيّ لحظـــــة يمكن لهذا العمل أن ينبعث من جديد ويعود إلى الحياة التي يمنحها القرّاء لكتاب أدبي. في هذا العمل ما يكفي من الثّراء ليكون في مأمن..هذا هو سرُّ روائع الأدب العظيمة. هي ترقد هنا، يمكن أن تظلّ مدفونة، لكن بشكل مؤقت، لأنها في أيّ وقت يمكنها أن تعود لمخاطبة جمهور ما، لإغنائه مثلما أغنَت قرّاءها في الماضي " – ماركيز بعيون يوسا ترجمة نجيب مبارك

نشأ ماركيز ويوسا في بيئة عائلية متشابهة، فكلاهما تربى على يد جديه وكلاهما كان على خلاف مع والده، وقد  جمعهما كما قال يوسا حبهما لأعمال الكاتب الأمريكي ويليام فوكنر، والذي وصفه يوسا بأنه "القاسم المشترك بيننا". وأضاف يوسا أن الأهم من ذلك هو أنهما أدركا تماما أنهما من أمريكا اللاتينية عندما قدما إلى أوروبا لأول مرة.

في وصفه لرواية "مئة عام من العزلة"، قال فارغاس يوسا إنه "ذُهل" بالرواية  عندما قرأها،:" لدرجة أنني سارعتُ لكتابة مقال عنها، اكدت  فيه  أن أمريكا اللاتينية قد أصبح لديها اخيرا روايتها الخاصة، قصة يبرز فيها الخيال دون أن يفقد جوهر الواقع. كما أنها تمتعت بميزة قلّما تجدها في روائع الأدب: قدرتها على جذب قارئ متطلب مهتم باللغة، وفي الوقت نفسه قارئ عادي لا يهتم إلا بمتابعة الحكاية."

كما قام فارغاس يوسا بتدريس أعمال غارسيا ماركيز في جامعات بورتوريكو والمملكة المتحدة وإسبانيا في أواخر الستينيات، مما أدى به إلى تأليف كتاب عام 1971 بعنوان " غارسيا ماركيز: قصة قاتل الإلة "، وهو أطروحته للدكتوراه.

وعلى النقيض من رواية مئة عام من العزلة، قال يوسا إنه يعتقد أن أضعف كتاب لغارسيا ماركيز هو رواية خريف البطريرك التي صدرت عام 1975، والتي وصفها بأنها "صورة كاريكاتورية لغارسيا ماركيز، رواية كتبها شخص يقلد نفسه".

أدرج يوسا غارسيا ماركيز ضمن كُتاب أمريكا اللاتينية العظام، مثل المكسيكي خوان رولفو والكوبي أليخو كاربنتييه، من حيث قدرته على إيجاد الجمال في قبح  أمريكا اللاتينية وتخلفها. وعندما سُئل عما إذا كانت أمريكا اللاتينية المزدهرة ستنتج أدبا خياليًا كأدب الكُتاب الثلاثة الذين ذكرهم، أجاب يوسا بأنه غير متأكد، لكنه أضاف: " لا أريد أن تبقى قارتنا على حالها حتى تتمكن من إنتاج أدب عظيم. فالدول تحصل على الأدب الذي تستحقه".

في كتاب " سيرة حياة " يحاول  جيرالد مارتن ان يبحث عن سبب " المنازلة " فيخبرنا بأن أي منهم – ماركيز ويوسا - لم يرغب في مناقشة الأمر. لكن جيرالد مارتن يروي لنا الحكاية كما سمعها من بعض الشهود، في الثاني عشر من شباط عام 1976 كان ماركيز مقيماً في مدينة مكسيكو، فذهب لمشاهدة العرض الافتتاحي للشريط السينمائي عن الناجين من تحطم الطائرة في جبال الأنديز الذين تحولوا إلى أكل لحوم البشر.، ولدى وصوله، كان ماريو فارغاس يوسا الذي جاء الى المدينة لمشاهدة العرض - فقد كان هو كاتب السيناريو -  يقف في الردهة، ما ان راه ماركيز حتى تقدم نحوه فاتحا ذراعه وهو يهتف:" مرحبا يا أخي "، لكن يوسا الملاكم الهاوي سدد اليه لكمة عنيفة على وجهه فسقط ماركيز أرضاً وصاح يوسا:" هذا بسبب ما فعلته لباتريشا " باتريشا هي زوجة يوسا وقريبته، ويقال ان علاقتهما في تلك الفترة كانت تمر بازمة، فحاول ماركيز طمانتها. ويقول البعض ان ماركيز نصحها بالبدء باجراءات الطلاق. على حين يقول البعض ان باتريشيا قالت ليوسا ان ماركيز حاول ان يتودد لها. لتصبح لكمة يوسا هي الاشهر في تاريخ ادب امريكا اللاتينية. ولا تزال موضع توقعات وتفسيرات كثيرة  حيث يظن البعض أن " اللكمة " ربما كان بسبب خلاف سياسي حول العلاقة مع كوبا. لكن معظم اصدقاء ماركيز ويوسا يؤكدون ان السبب كان زوجة فارغاس يوسا.

التقى غابريل غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا لاول مرة في العاصمة الفنزويلية، وفي مطار مايكيتيا في بدايات شهر آب من عام 1967، لم يكن أحدهما يعرف الآخر شخصياً، مع انهما تبادلا بعض الرسائل التي أعربا فيها عن التقدير المتبادل وسيعلق يوسا على هذا اللقاء:" كانت تلك المرة الأولى التي نلتقي فيها وجه لوجه. إنني أتذكر وحهه جيداً. إنني أتذكر وجهه جيدا، في تلك الليلة، كان ممتقعاً بسبب خوفه من الطائرة، فهو يشعر بخوف شديد منها، وكان غير مرتاح وسط المصورين والصحفيين الذين يحاصرونه. صرنا صديقين، وكنا معا طوال الأسبوعين اللذين استمرت خلالهما جلسات المؤتمر " – آنخل إستيبان من غابو إلى ماريو ترجمة صالح علماني -.

في حوار نشر معه بعد وفاة ماركيز قال يوسا:" كنت أشتغل في باريس في الإذاعة والتلفزيون الفرنسي، وكنت أعدّ برنامجاً أدبياً أقدّم فيه وأعلّق على الكتب المتعلقة بأمريكا اللاتينية والصادرة في فرنسا. في عام 1966، وصلني كتاب لمؤلّف كولومبي بعنوان: ( ليس للكولونيل من يكاتبه). أعجبني الكتاب في واقعيته المكتوبة بعناية، ولوصفه الدقيق جداً لهذا الكولونيل العجوز الذي ظلّ يطالب بتقاعد لم يحصل عليه أبداً. لقد أسعدني كثيراً التعرّف على كاتب اسمه غارسيا ماركيز". واضاف:" أعتقد أنّ ما ساهم كثيراً في صداقتنا هي القراءات: كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. كان القاسم المشترك بيننا هو تلك القراءات. كان هو متأثراً كثيراً بفرجينيا وولف. يتحدّث عنها كثيراً. أما أنا فكنت أتحدث عن سارتر، الذي أعتقد أن غارسيا ماركيز لم يقرأ له حينها. لم يكن يهتمّ كثيراً بالوجوديين الفرنسيين، الذين كانوا مهمين بالنسبة لتكويني. بخصوص كامو، نعم. لكن ماركيز كان يقرأ أكثر الأدب الأنجلوساكسوني "

بعد وفاة ماريو فارغاس يوسا  توجهت وكالة الصحافة الفرنسية الى  الصحافية والروائية إلينا بونياتوسكا التي تبلغ من العمر 92 عاماً وكانت احد شهود واقعة " اللكمة " التي اكدت ان يوسا كان غاضبا بسبب ما قاله ماركيز لزوجته.

في عام ١٩٨٢، عندما نال غابرييل غارسيا ماركيز على جائزة نوبل في الأدب. القى  في ستوكهولم كلمة  بعنوان  "عزلة أمريكا اللاتينية "، لم يذكر فيها ماريو فارغاس يوسا. بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، في عام ٢٠١٠، عندما نال البيروفي  ماريو باراغاس يوسا جائزة نوبل ، لم يشر هو الآخر إلى  ماركيز. بدا الأمر كما لو أن كليهما اتفق ضمنيًا على محو الآخر من تاريخه.

في السابع عشر من نيسان عام 2014 غادر غابريل غارسيا ماركيز عالمنا، ولم يترك عائلته وحدها في عزلة، بل العالم في اسره تاذي منحه لقب الكاتب الاعظم.. مات ماركيز بعد ان ترك وراءة قراء من كل اللغات، قراء موالين، قراء نهمين، قراء من كل الانواع لان رواياته جعلتنا نحلم بكل الطرق.

في الثالث عشر من نيسان عام 2024 توفي ماريو فارغاس يوسا وكان قد صرح قبل اشهر انه يحن الى الماضي كثيراً، ولكن بالطريقة التي ذكرها سكوت فيتزجيرالد في نهاية روايته المدهشة غاتسبي العظيم:" سنواصل قدماً، زوارق ضد التيار، مدفوعين بلا توقف نحو الماضي ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم